ربما أحسسنا بوجود تضارب, مهما يكن طفيفا, بين وظيفة النقد الأدبي التمييزية, أعني التي تطلب من الناقد أن يميز بين الغث والسمين, وبين النسبية النقدية التي تفترض أن المعايير الأدبية متغيرة. ويجب ألا نرتكن إليها في إصدار أية أحكام نقدية, فالتغير يجعلها معايير متعلقة بذائقة العصر أو ذائقة اللغة, بمعني المذاق الخاص للغة الذي يعرفه من نشأ في كنفها وتشرب طرائق تعبيرها وفكرها, وما دامت كذلك فهي نسبية بمعني أننا يجب ألا نطبق معيارا شائعا مثل' التماسك النصي', وهو من الصفات الشكلية, أو حتي' ترابط المعني' وهي من الصفات الدلالية, ناهيك بعلوم البلاغة من بيان ومعان وبديع, علي كل نص أدبي في مجال الحكم عليه. ولكن هذا ما لا نقصد إليه عندما نتحدث عن النسبية, فالنسبية تسمح بالتغيير في هذا كله ولكنها لا تسمح بالتغيير في قدرة النص( شعرا كان أم نثرا) علي تقديم مادة إنسانية لها وزنها( أي لها أهميتها للقارئ ولها علاقة بحياته) في بناء جمالي يمتعه ويثير مشاعره. فإن لم يكن في النص ما يحقق ذلك وهذه أيضا مسألة اختلاف في الدرجة أي إن لم يكن فيه ما يحقق الحد الأدني من المادة الإنسانية وقوة التأثير, انصرف عنه القارئ أو قرأه ولم يعد إليه. أي إن التمييز هنا نسبي أيضا, فالقارئ يقرأ هذا وذاك, ويجد أنه مشدود إلي هذا أكثر من ذاك, ومن ثم فهو يقارن وإن لم يكن يدري أنه يقارن بين النصوص, ويجد نفسه منجذبا إلي نص أكثر من سواه, ولا يعني ذلك أن سواه ليس أدبا( ما دام قد حقق الحد الأدني من المعايير النسبية التي أشرت إليها) ولكنه يعني أنه أقل منزلة( في ميزان الامتياز) من العمل الذي سلب لبه وعاش في خاطره. ولهذا درج النقاد علي ممارسة المقارنة باعتبارها من وسائل التمييز بين الأعمال, وإذا وجد الناقد أن أحد الذين يدعون الأدب يحاكي غيره محاكاة فجة دون أن يكون عنده من المادة الإنسانية الصادقة ما يؤثر فيه( أي في الناقد) ويمتعه, فإن من حقه بل من واجبه أن يدرس النص الفج وأن يبين للقراء سر فجاجته, علي الرغم من محاكاته للمظاهر الشكلية المعترف بامتيازها. ونحن نطلق علي هذا الدرس مصطلح' التحليل', فالتحليل لا يقف عند النظر في الأعمال الفنية الرائعة وتبيان مصادر إبداعها الفائق مثلما فعل أبو العلاء المعري في معجز أحمد, وهو شرحه لديوان المتنبي( الذي فاق فيه أبا البقاء العكبري ومحيي الدين عبد الحميد) بل يتجاوز ذلك إلي المقارنة بينه وبين من تناول المادة الإنسانية نفسها من قبله أو في عصره فلم يوفها حقها من المعالجة الجمالية. والواضح حتي في مثالي الأخير أن التحليل والمقارنة من الجهود القائمة علي تصور معين للعمل الفني, وهو هنا شعر المتنبي العظيم, أي أن النقاد هنا لا ينتمون إلي مكان واحد ولا إلي مصدر واحد, ولكن انظر كتاب القاضي الجرجاني( الوساطة بين المتنبي وخصومه) تجد الأدلة ناصعة علي التمييز استنادا إلي التحليل والمقارنة وكيف ينتقل الناقد ببراعة بين شعر أبي تمام( أستاذ المتبني) والبحتري وأبي نواس حتي يصل إلي غايته, وهو لا يتردد في الحكم حتي علي بعض شعر أبي تمام وبعض شعر المتبني بالسخف قبل أن يصل إلي عظمة المتنبي. ونحن نتبع هذا المنهج الجديد في التحليل والمقارنة باعتبارهما المبدئين اللذين أرساهما النقد الجديد, وكبار نقاد اليوم مهما تكن توجهاتهم الأيديولوجية لا يجدون عنهما محيصا, ولقد فعلت ذلك في مقدمتي لترجمة دقة بدقة لشيكسبير فقارنت هذه المسرحية بنظائرها التي تعالج مادتها الإنسانية نفسها في عصر الشاعر, والتي كتبها معاصرون له أو سابقون عليه, مثل وتستون وميدلتون ومارستون, وتوسعت في المقارنة حتي أبين مواطن اختلاف شيكسبير وامتيازه, ولم أغفل أية ظاهرة بدت لي أهميتها, من البناء الدرامي والبلاغي حتي الأبنية العروضية. ولكن للنسبية وجها آخر يتعلق بالمبدع الفرد, فالمبدع الحق دائما ما يتفرد برؤية تفرض عليه تحويرات في الشكل الفني الذي يعتبر بالنسبة إليه إطارا عاما, لا قفصا من حديد, فكاتب الشعر المنثور يجد فيه أداة صالحة للتعبير عن رؤيته الشعرية نثرا, أما لماذا يسميه شعرا فهو تجاوز نتغاضي عنه ما دمنا بصدد الرؤية الشعرية, أي إننا ننظر فيما يحاول المبدع أن يفعل ثم ننظر في نجاحه أو إخفاقه في تحقيق مقصده, معتمدين في قياس النجاح والإخفاق علي التحليل والمقارنة, ومن ثم نفترض أن المقصود بالرؤية الشعرية الرؤية القائمة علي الاستعارة, فالقدماء الذين فسروا أرسطو كانوا يميزون بين الدراما القائمة علي الصراع والشعر( الغنائي أي الذي يقوله الشاعر بشخصه الحقيقي) الذي يقوم علي الاستعارة والضغط, ومن الطبيعي أنه إذا توافرت للشاعر الناثر هاتان الخصيصتان فسوف ينجح في التأثير في القارئ, وبهذا نقول إن نثره شعري, مستعينين بالمقارنة مع غيره من أصحاب هذا المذهب الفرنسي( القديم نسبيا) ومن المعاصرين, وحبذا لو قارنا رؤيته الشعرية باعتبارها مادة إنسانية بمثيلاتها في الشعر المنظوم المقفي. أي أننا لا نبدأ بمعايير خارجية بل بالمعايير التي اختارها الكاتب, فكاتب القصة القصيرة الشعرية غير مطالب بوجود حدث يتصاعد إلي ذروة, بل هو يقدم حالة نفسية ممتدة, ونحن نحكم عليها في حدود ما أراد مبدعها لها أن تكون, وخير مثال علي ذلك المجموعة القصصية خريف الأزهار الحجرية للأديب ماهر شفيق فريد. لمزيد من مقالات د.محمد عنانى