يكتب الإنسان الشعر والرواية والمسرح, ويؤلف الموسيقي ويعزفها, ويرسم اللوحات وينحت التماثيل ويبني المتاحف وقاعات العرض ودور السينما والمسرح, يمثل ويغني ويتمرد ويثور ويضحك ويعمل, كي يصبح أكثر حرية, يفعل أشياء كثيرة لا يستطيع فعلها داخل أنظمة الحياة اليومية الرتيبة. ويقوم الانسان بالإبداع ولا يكتمل إبداعه إلا بمشاركة الآخرين له فيه, وبالإبداع يتقدم, وبالإبداع يكون حرا, وبالحرية يكون أكثر إبداعا وإنسانية, وبالقمع والكبت والظلم يكون أكثر تخلفا وحيوانية. وبالابداع ينتج الإنسان كل ما هو جديد ومفيد كي يصبح أكثر حرية وسعادة. هكذا يمكن النظر إلي تاريخ الإنسانية علي أنه تاريخ للعلاقة بين الحرية والإبداع, فبالإبداع حاول الإنسان, منذ عصر الكهف والحجر والغابة وحتي عصر الصورة والفضاء والخيال وتحقيق المستحيلات, أن ينتقل من مرحلة الضرورة إلي مرحلة الحرية, ومن القيود الي الرفرفة والتحليق, فاستخدم الأدوات والآلات والأجهزة, واخترع التليسكوب والميكروسكوب وكاميرات التصوير والسينما والطيران والتليفزيون والكمبيوتر... إلخ, كي يتجاوز حدود الزمان والمكان, أن يصبح حرا أكثر, وممتلكا لوقته وإرادته أكثر. مشكلة حرية الإرادة ومشكلة الإبداع هما وكما يذكر بعض العلماء, مشكلة واحدة, بل المشكلة نفسها أيضا, هذا علي الرغم من تعدد الرؤي ووجهات النظر حولهما وحول العلاقة بينهما, وقد قال الكاتب الروسي الشهير دستويفسكي, ذات مرة:' إن إرادة الإنسان الحرة غير المقيدة, وميوله الخاصة, أيا كانت درجة اندفاعها وتهورها, وتخيله الخاص الذي يتأجج أحيانا فيصل به إلي مشارف الجنون, هو أفضل ما يمتلكه الإنسان, وهو جانب لم يوضع في الاعتبار, وذلك لأنه يستعصي علي أي تصنيف, كما يترتب علي إغفاله أن تحيق بالأنظمة والنظريات أوخم العواقب'. وقد أشارت دراسات كثيرة ذكرها عالم النفس الامريكي' سايمنتين' في كتابه عن:' العبقرية والإبداع والقيادة' الذي ترجمناه منذ حوالي عشرين عاما إلي أن زيادة النشاط الديني يرتبط بالتدهور الاقتصادي والهزائم العسكرية والتوقعات المحبطة والانكفاء علي الماضي واليأس من المستقبل, بينما يميل الرخاء الاقتصادي إلي دفع الناس بعيدا عن دور العبادة سعيا وراء المصالح والإشباعات المادية, لهذا يلح رجال الدين في أوقات الرخاء والشقاء وينشطون وينصحون الناس بضرورة الابتعاد عن الدنيا وزخرفها ومتعها التي قد تبعدهم عن الدين. كذلك وجدت دراسات أخري علاقات بين الكساد الاقتصادي وشيوع الاعتقاد في الخرافات والتنجيم وبين الكساد الاقتصادي والاضطراب السياسي واللجوء إلي قيادة تسلطية, فحتي في الولاياتالمتحدة أعطي فرانكلين روزفلت(1882-1945) سلطات لم تعط لأي رئيس أمريكي آخر خلال أوقات السلم, ويبدو أن الناس في أوقات عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي يحتاجون إلي شيء محدد ثابت كي يعتقدوا به أرض ثابتة يقفون عليها, سواء أكان هذا الشيء ديانة متزمتة, أو خرافة لا عقلانية, أم قائدا قويا متسلطا. وقد أشارت دراسات سيكولوجية واجتماعية كثيرة إلي أن التطور الإبداعي يعتمد علي التنوع الثقافي وأن التمرد- أو الثورة- ضد الأنظمة الخانقة القامعة يمكن أن يستحضر نهضة في المجال الإبداعي, علي الأقل في الأنشطة الفكرية كالعلم والفلسفة والأدب والموسيقي, لكن الأمر قد يحتاج إلي ما يقرب من عشرين عاما حتي تظهر الأعمال الإبداعية العظيمة المتأثرة بذلك التمرد أو تلك الثورة. لقد شهدت أمم عديدة ازدهار الإبداع عندما تبنت هذه الأمم القيم الديمقراطية والأنظمة الليبرالية, كما كان الحال في اليونان القديمة مثلا, وقد قيل إن ذلك مرجعه وجود ميول اجتماعية عامة تشجع علي التنوع والاختلاف وليس التشابه والتطابق والتكرار, فالتنوع الثقافي عامل مهم لتحسين البيئة الإبداعية. ففي الأنظمة الديمقراطية فقط يمكن للمرء أن يعارض دون أن تترتب علي معارضته نتائج سلبية, في الأنظمة الديمقراطية فقط يزداد قدر الحرية ويزدهر الإبداع. ان العدو الأكبر للحرية والابداع هو القمع والفاشية ومحاولة تنميط الناس أو قولبتهم داخل اطر ثابتة جامدة ميتة منتهية الصلاحية, ان العدو الأساسي للإبداع هو خنق الحرية الفردية والجماعية من خلال أفكار تسلطية أو فاشية, أيا كانت في الدراسات التي أجريت علي الشخصية الفاشية, تبين أن السمة الأساسية لهذه الشخصية تتعلق بذلك البعد الخاص بالسيطرة الخضوع. فأتباع هذه الشخصية: مسيطرون علي أتباعهم, شديدو الخضوع لمن هم أعلي مكانة أو قدرة, كما توجد هناك سمات نفسية واجتماعية اخري مهمة تميزهم ومنها: التأكيد علي ضرورة المسايرة المطلقة لهم من جانب الاتباع( السمع والطاعة), عدم التسامح مع الآخرين, النمطية في التفكير( القوالب الجامدة), وقد خلص المفكر والعالم الالماني أدورنو من دراساته علي الشخصية التسلطية وكذلك توصل العديد من علماء النفس الذين درسوا الشخصيات الفاشية والتسلطية إلي أن هؤلاء المتسلطين قد أصبحوا كذلك بسبب التربية الخاصة بهم, وأن أبرز خصائصهم: الميل الدائم للكذب وعدم الوفاء بالعهود, التبلد الانفعالي, التمسك بأفكار متناقضة, التعصب ضد الآخرين المختلفين عنهم( دينيا عرقيا قوميا... إلخ), كما أنهم يعملون علي إحداث الصراعات بين الآخرين وتفاقمها, ويرون العالم علي أنه خطر ومهدد لهم وثنائي الطبع( نحن في مقابل الآخرين), لا يشعرون بالذنب بسبب ما يقترفونه من جرائم, لا يعترفون بالفشل, يعتقدون أنهم أقوم أخلاقا من الآخرين, ليس لديهم عقول متكاملة تري العالم يتجلي علي انحاء شتي بل إن عقولهم تبسيطية تري العالم من خلال وجهة نظر احادية. و هم ايضا ذوو معايير مزدوجة, فهم يصرون علي حقوق الأقليات عندما يكونون أقلية وعلي حقوق الأغلبية عندما يكونوا أغلبية, يتسمون بالعنف والميل إلي عقاب المختلف معهم, لديهم ذوق/ تذوق فني محافظ, بل يعارضون الفنون عموما والحديثة منها خصوصا,يعارضون التقدم العلمي, و توجههم الزمني نحو الماضي وليس المستقبل, يحرصون علي الطقسية في الملابس والكلام والسلوك, يميلون إلي فرض قيود علي الجنس ويميلون إلي قمع النساء علي نحو خاص, وتكون حالة عدم اليقين وكذلك عدم الثقة في الذات أو الآخر أساس اتجاههم المتسلط; إنهم يخافون الموت ويخشون نهاية مشروعاتهم الكبيرة في الحياة, وهم شبه فصاميين, يتوهمون كلية القدرة والفكرة التي يقوم عليها مشروعهم, وكذلك كلية حضور الإنجاز الخاص بهم علي الرغم من تناقض معطيات الواقع مع هذه الأوهام والادعاءات والهذاءات و كما يتبدي ذلك في عجزهم الواضح عن الإبداع.انهم منفصلون عن الواقع يعادونه ويدمرونه, بينما يزعمون أنهم يحملون الخير له. ولديهم, كذلك, تأكيد مستمر علي فكرة السمع والطاعة والولاء للجماعة,و ميل الي التحكم في الآخرين من خلال الترهيب وإثارة الخوف والرعب والشك, مع التمسك بزعم وجود عصر ذهبي ماض تدعي أنها ستحاول أن تعيده وتعيد أمجاده, بصرف النظر عن وهمية هذه الادعاءات وخياليتها وبعدها عن الواقع, تتبني نوعا ضيقا من الولاء لمن يتبعون مبادئها وغير ذلك, هم أخيار أو أعداء, تميل إلي تمجيد الزعيم أو المرشد والنظر إليه علي أنه بطل أو إنسان خارق, الميل إلي السرية والغموض, والتركيز علي فكرة الصراع من أجل سيطرة الأصلح الذي لابد أو الجماعة الناجية التي لابد وأن تكون هي ذاتها دون غيرها, قصيرة النظر ضيقة الأفق تفتقر للمرونة والتجدد والإبداع, ولذلك سرعان ما يلحق بأصحابها الهزيمة والخذلان والدمار. ووفقا لما قال المحلل النفسي الألماني' وليم رايخ' في كتابه' عن سيكولوجية الجماهير الفاشية', فإن الفاشية مشكلة تتعلق أكثر بالطريقة التي تسلك من خلالها العامة أو الجماهيروتفكر, أكثر من تعلقها بشخصية ما( هتلر مثلا) أو بسياسات حزب او جماعة معينة. إنها مشكلة تتعلق بالطريقة التي يمكن أن تتحول عبرها جماهير من البشر فقيرة مسلوبة الإرادة نحو التأييد لحزب رجعي ماكر خبيث وبطريقة هائجة صاخبة مضطربة عنيفة, وإنها لطريقة تتعلق بتلك الممارسات الخاصة بتخليق العبيد. لمزيد من مقالات د.شاكر عبد الحميد