ربما هو التاريخ الذي لايعرفه أحد, وهو المعني الذي يتبادر الي الذهن حين نقرأ مقدمة ابن خلدون الذي يعد مؤسسا لعلم التاريخ الحديث. كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر وبعدها نقرأ وعي طه حسين بالمقدمة التي جعلها موضوعا لأطروحته الجامعية( فلسفة ابن خلدون) التي قدمها لجامعة مونبلية عام1917 م تحت إشراف إميل كهايم ولا يعلم أحد عنها شيئا حتي اليوم; في وقت تمر فيه القرون علي رحيل ابن خلدون وقرابة القرن علي تاريخ تقديم طه حسين الدراسة الي جامعة بباريس. وربما كان ابن خلدون بالفعل هو أول من أدرك هذه الحقيقة حين دون أن التاريخ يعيد نفسه, خاصة حين يتعلق الأمر بإحدي الجماعات الدينية وتأثيرها; فطه حسين هو أول من لاحظ في بدايات القرن الماضي أن لا شيء في أحداث التاريخ يسمي مصادفة وأن من الضروري أن ندرس القوانين التي يحدث بها هذا التطور فهنالك قواعد أو هي' قوانين' تفسر مسار الحركة الاجتماعية مسميا اياها بموضوع( علم العمران البشري, والاجتماع الانساني..). وعبورا علي منهج ابن خلدون التاريخي يمكن أن نلحظ مع العميد كيف أن المؤرخ الذي عاش في القرن الثامن الهجري مازال يرصد في زمننا هذا الفهم عبر شكل اجتماعي واحد هو الدولة المنظمة التي تؤثر فيها حركة الواقع الجغرافي المركزي أو الدائري, فهو في الوقت الذي يجتهد في أن يدرس أطوارها المختلفة ومنشأها وكيفيه تقدمها وعلوها حتي الذروة ثم انحطاطها الذي يعقب ذلك مباشرة, وهو حين يشرح العديد من التطورات الاجتماعية في صنع التاريخ لم يعن كما لاحظ طه حسين بأن يبحث' عن الخواص المميزة لجماعات عديدة عاشت بالقرب منه ولعب بعضها دورا كبيرا كالجماعات الصوفيه'; وهنا نلاحظ مع طه حسين أن ابن خلدون في تفسيره للتاريخ لاحظ أن مثل هذه الجماعات الروحية وممثليهم وعلمائهم' حصروا أصول الإسلام في حدود لا يمكن اقتحامها' وخاصة حين نتذكر نشأة عدة جماعات خاصة شديدة التباين منذ القرن الثاني في قلب الدولة الاسلامية الكبري, تتحدث باسم العقيدة وتحاول تغيير ما تريد تغييره باسم العقيدة.. الجماعات الدينية التي ترتدي ثوب الدين حينا وتستخدم شعاراته ومبادئه لأغراض براجماتية هي التي حاول المؤرخ العربي منذ قرون الاشارة إليها, ثم جاء المفكر العربي في العصر الحديث ليلقي الضوء علي آثارها التي تدفع بنا الي الخلف كثيرا.. وهنا يمكن التوقف عند كثير من أخطاء عالم اجتماعي ومؤرخ كبير مثل ابن خلدون, وأن نفهم تعليق مفكر كبير مثل طه حسين علي' أغلاط ابن خلدون التاريخية' في انه' تغاضي تمام الإغضاء عن العمل الحاسم لهذه الجماعات من حيث تأثيرها في حركة تاريخ الدولة الاسلامية وتاريخ إفريقيا الشمالية ذاتها في عصر العباسيين, وتتحدد هذه الأخطاء أو' الأغلاط' في أنه أفضي تمام الإغضاء عن العمل الحاسم لهذه الجماعات وليس ذلك بجهل وجودها فهو يذكرها في عدة مواضع ولكنه لا يشعر بتأثيرها في التاريخ السياسي الذي اتخذه موضوعا لمقدمته. ويكون علي طه حسين أن يرصد بعض أخطاء ابن خلدون حين' أغضي تمام الإغضاء عن العمل الحاسم لهذه الجماعات رغم أن مثل هذه الجماعات التي كانت تتخذ من الدين ستارا كانت تسعي لتحقيق العديد من الأغراض السياسية في المقام الأول. وهو ما كان يفسر كيف كان ابن خلدون المؤرخ يهتم بالمجتمع أو البحث الاجتماعي أكثر من فهم إيقاع الحركات أو التيارات الدينية التي تتخذ من الدين أسلوبا, وإذا أردنا الدقة أكثر فان هذا الفهم لحركة التاريخ الاجتماعي هنا لا تغادر الاخبار عنه, وهو ما يقرره صاحب المقدمة وينقله عنه طه حسين مؤكدا أن هذا العلم الاجتماعي' إنما ثمرته في الإخبار فقط كما رأيت وان كانت مسائله في ذاتها واختصاصها شريفة لكن ثمرته تصحيح الاخبار وهي ضعيفة'.. وعلي هذا النحو, يمكننا التعامل مع صاحب( المقدمة) كما لاحظ الغرب علي أنه أقرب إلي عالم الاجتماع أكثر منه مؤرخا التاريخ, ففي المقارنة بين المقدمة التي كتبت من قرون وكتاب روح القوانين يمكننا أن نلاحظ أن هذا الكتاب الأخير مؤلف فلسفي أكثر منه كتابا تاريخيا وهو ما يعود بنا الي موضوعنا الأول الذي حاول فيه ابن خلدون أن يستعيد كتابة التاريخ انطلاقا من الواقع الذي عاش فيه, غير أن الذي يهمنا هنا أنه راح يرصد الظواهر الاجتماعية في عصره( وهو الفقيه المالكي, وعالم الأصول, واللغة) انطلاقا من الفهم العام لحركة التاريخ, ومن هنا, يمكن تفسير موقفه السلبي من عديد من الظواهر الاجتماعية لبعض' الجماعات' التي حاولت أن تفرض وجودا خاصا لها وتستخدم العقيدة لاغراضها وتسعي الي فرض قانون خاص بها عبر المذاهب أو التيارات الخاصة رغم حضورالسياسي الذي كانت تسعي به للسيطرة علي مقدرات الدولة, وهو ما تعانيه البلاد اليوم رغم مضي كل هذه القرون قبل القرن السابع للهجرة زمن ابن خلدون أو زمن طه حسين.. لمزيد من مقالات د.مصطفى عبدالغنى