إذا أردنا أن نعرف الأسباب التي سمحت لجماعة الإخوان بأن تتقدم الصفوف, وتصنع ما صنعته بمصر وبنا خلال العقود الأربعة الماضية, فلنبحث عن الثقافة. وإذا أردنا أن نلزم هذه الجماعة الإرهابية مكانها, ونقلم أظفارها, ونردها إلي حجمها الطبيعي, فلنبحث عن الثقافة. ولكي ندرك الدور الذي لعبته الثقافة في الانقلاب الذي أطلق هذه الجماعة من عقالها, وألقي لها الحبل علي الغارب, نقارن بين ما كان سائدا في مصر إلي أواسط القرن العشرين من اتجاهات وتيارات فكرية وسياسية وفنية, وما أصبح سائدا خلال العقود الأخيرة. ونحن نري أن في مصر الآن أحزابا وجماعات ترفض الديمقراطية علنا, وتعتبرها زندقة وهرطقة, لأن الديمقراطية ترد السلطة للشعب, وتعتبره مصدر كل السلطات, وجماعات الإسلام السياسي كلها بما فيها جماعة الإخوان ترفض هذه الديمقراطية, وتقول إن الحكم لله, أي لمن عينوا أنفسهم وكلاء عنه وهم الإخوان والسلفيون, الذين استطاعوا بالاتفاق مع الأمريكان والمجلس العسكري الذي تولي السلطة بعد سقوط مبارك, أن يفوزوا بأغلبية المقاعد في مجلس الشعب, وبرئاسة الجمهورية, فإذا كان الإخوان لا يجهرون الآن بعدائهم للديمقراطية كما يجهر السلفيون, فهم يلجأون لتزييفها حتي يتمكنوا من ركوبها إلي السلطة, وعندئذ يذبحونها ويوزعون لحمها علي الفقراء الأميين, كما فعلوا في العامين الماضيين, إذ أدخلوا علي الدستور ما وافقهم من تعديلات لم تكن في الحقيقة إلا تعويجات, وأجروا الاستفتاء الذي خيروا المشاركين فيه بين الجنة والنار, ووزعوا الزيت والسكر, وهددوا بحرق القاهرة حتي وصلوا إلي السلطة ليضعوا دستورا يشق الصفوف, ويحول الأمة المصرية إلي طوائف دينية, ويسلبها حقها الطبيعي في التشريع لنفسها, ويعطي هذا الحق للإخوان والسلفيين. قارن بين هذا العداء المستحكم للديمقراطية والدستور, وهذا الفهم المتخلف للإسلام الذي أصبح ثقافة سائدة في مصر مكنت الإخوان من العبث بدستور1972 وتغيير المادة الثانية منه بما يتفق مع تصوراتهم وأطماعهم, وبين العقول المستنيرة التي صاغت دستور1923, وساوت فيه بين المصريين, وجعلت حرية الاعتقاد مطلقة, والتشريع حقا للأمة تمارسه عن طريق نوابها. بل قارن بين عداء هذه الجماعات للدستور وفهمها المتخلف للدين الحنيف, وما كان يقوله رفاعة الطهطاوي عن الدستور الفرنسي في كتابه المرشد الأمين قبل قرن ونصف قرن من اليوم. يقول هذا الرائد العظيم: إن من زاول علم أصول الفقه جزم بأن جميع الاستنتاجات العقلية التي وصلت عقول أهالي باقي الأمم المتمدنة إليها, وجعلوها أساسا لوضع قوانين تمدنهم وأحكامهم قل أن تخرج عن تلك الأصول التي بنيت عليها الفروع الفقهية, فما يسمي عندنا علم أصول الفقه, يسمي ما يشبهه عندهم الحقوق الطبيعية, أو النواميس الفطرية, وهي عبارة عن قواعد عقلية تحسينا وتقبيحا يؤسسون عليها أحكامهم المدنية, وما نسميه العدل والإحسان, يعبرون عنه بالحرية والتسوية. الطهطاوي قبل مائة وخمسين سنة لا يري أي تعارض بين مبادئ الشريعة, وأحكام العقل, وحقوق الإنسان, ويعتبر العدل حرية, والمساواة إحسانا, والسلفيون في لجنة الدستور يهددون بالانسحاب لأن مبادئ الشريعة لا تكفيهم, ولا تضمن لهم الوصول إلي السلطة, فلابد أن يضيفوا لها الأدلة الكلية والقواعد الأصولية والفقهية!! الفرق بين ثقافة الطهطاوي ومن واصل السير بعده في طريق النهضة, وثقافة الإخوان والسلفيين ومن تبعهم, هو الفرق بين العقل والنقل, بين التجديد والتقليد, بين النهضة والانحطاط. ثقافة النهضة أيقظت عقولنا وعرفتنا بأنفسنا التي لم نكن نعرفها, وبمصر التي كنا نجهلها, ونتبرأ منها, لأن مصر القديمة فرعونية, والفراعنة أعداء اليهود, واليهود أقرب إلي المسلمين من الفراعنة, ومصر بعد الفراعنة أرض مفتوحة للغزاة الأجانب فقدت استقلالها, وفقدت جيشها, وفقدت دولتها الوطنية, وفقد أهلها الشعور بالانتماء لها, حتي اصطدمنا بالغرب, وتحررنا من الفرنسيين, وفتحنا عيوننا علي العصور الحديثة, وبدأنا النهضة التي استعدنا منها استقلالنا ووعينا بأنفسنا, واعتزازنا بتاريخنا القديم, وتخلصنا من الأتراك والإنجليز, وتحررنا من سلطة النقل, واحتكمنا لعقولنا. في ظل ثقافة النهضة أنشأنا الجامعة, التي يدمرها طلاب الإخوان في هذه الأيام, وفي الجامعة وقف طه حسين يحاضر طلابه في الشعر الجاهلي, ويعلمهم أن العلم طريق, والدين طريق آخر.. نحن في العلم نبحث عن الحقيقة, ونصل إليها بعقولنا, وفي الدين نبحث عن الطمأنينة, ونؤمن بما تطمئن له قلوبنا, لأن الدين قبل كل شيء روح وأخلاق, فإذا ذكرت فيه الوقائع والحوادث فلضرب المثل, وتقديم العبرة, وليس للتعريف بظواهر الطبيعة, أو تحقيق التواريخ, أو استخلاص القوانين, وعلي هذا يجب ألا نعتمد في البحث العلمي علي النص الديني, يقول طه حسين: للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل, وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا, ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي, هل كان بوسع طه حسين أن يقرر هذا المبدأ إلا في المناخ النقي المضيء الذي صنعته ثقافة النهضة, فانطلقت فيه العقول تكتشف وتبدع؟ لكن ثقافة النهضة تراجعت أمام المشعوذين الذين استولوا علي الجامعة, وانتشروا في الصحف وأجهزة الإعلام يتحدثون عن الإعجاز العلمي في القرآن, وعن توليد الطاقة من أجسام الجن الملتهبة!وقد حدثتكم من قبل عن علي عبدالرازق وكتابه الإسلام وأصول الحكم الذي أثبت فيه أن الخلافة ليست أصلا من أصول الإسلام, علي العكس مما يروجه الإخوان والسلفيون في هذه الأيام, واستطاعتنا أن نقارن بين ما تحقق للمرأة في ظل النهضة, وما خسرته في ظل ثقافة الإخوان, وأن نقارب بين ما كنا ننتجه من الآداب والفنون, وما أصبحنا ننتجه الآن لنري أننا فقدنا الكثير, وفقدنا بالتالي قدرتنا علي مقاومة الإخوان الذين كان عليهم أن يحيوا ثقافة عصور الانحطاط, ويحلوها محل ثقافة النهضة, ليتسلطوا علينا, ويصنعوا بمصر وبنا ما صنعوه خلال العقود الأربعة الماضية. كيف نتغلب علي هذه الجماعة الفاشية الإرهابية؟ نتغلب عليها بالعودة إلي الطهطاوي, ومحمد عبده, وأحمد لطفي السيد, وطه حسين, وعلي عبدالرازق, وسلامة موسي. نتغلب عليها بالخروج من ثقافة النقل, وتطهير مؤسساتنا الدينية والتعليمية والإعلامية منها, والرجوع إلي ثقافة العقل من جديد. لمزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي