عرف فيليب كيتشرPhilipKitcher, فيلسوف العلم الإنجليزي المعاصر, خارج الحقل الأكاديمي بأعماله التي تبحث في أخلاقيات العلم وخاصة في المجال البيولوجي. كما أهتم بعلم اجتماع العلوم, وبالأبعاد السياسية والاجتماعية للقضايا المثارة في العلم بوجه عام. قدم كيتشر عدة مؤلفات في فلسفة العلم تمثل علامات بارزة في تطور هذا الفرع من فروع الفلسفة وتعكس رؤي جديدة ومختلفة تجعله بحق فيلسوف علم القرن الحادي والعشرين, كما يمثل تيارا جديدا يهتم بإثارة قضايا لم تكن مطروحة لدي التيار السائد في فلسفة العلم ومنها العلاقة بين العلم والديمقراطية والتساؤلات الناتجة عن هذه العلاقة من قبيل: هل يعمل العلم علي تنمية القيم الديمقراطية داخل المجتمعات الحديثة, كالرفاهية والأمن, علي الرغم من وجود خطر ناتج عن منتجات العلم ذاته وتطبيقاته علي تلك المجتمعات؟ وهل يساهم العلم في جعل السياسة أكثر عقلانية بحيث ينعكس ذلك علي المجتمع ككل, أم أن العلم يساهم أحيانا في سيادة ديمقراطية لاعقلانية قاصرة, غير فعالة, تخدم أغراضا أيديولوجية وسياسية محددة؟ وهل يمكن أن يسود ما يمكن أن نسميه' العقد الاجتماعي للعلم' بحيث يكون للعلم حكما ذاتيا خاصا به منفصلا عن أي مؤسسة سياسية أو دينية فتتلاشي أشكال التمويل السياسي المغرض, وكذلك التأويلات الدينية التبريرية التي تخدم مصالح طائفة أو فرقة ما؟. انصبت أفكار فيليب كيتشر في كتابه( العلم في مجتمع ديمقراطي), الصادر عام2011 م, علي تأكيد أن العلم مشروع إنساني يحمل مسؤولية تجاه المجتمع العريض, فضلا عن تأكيده الدائم بأنه ليس هناك ما يسمي بالعلم المثالي الذي يقدم للعلماء الحقيقة الخالصة خارج اهتمامات ومصالح المجتمع. إن الرسالة التي يحاول كيتشر أن يقدمها من خلال كتابه' العلم في مجتمع ديمقراطي' هي كشف الأدوات التي يستخدمها السياسيون وصناع القرار لتحويل العلم إلي قوة غاشمة تستخدم للردع في بعض الأحيان, فضلا عن نبذ فكرة الحياد الأخلاقي للعلماء الذين يزعمون أنهم يمارسون عملهم في حياد وموضوعية ونزاهة, وهي الفكرة التي حاول العلماء أنفسهم علي مدي تاريخ العلم الطويل إقناعنا بها. إن الخطورة تكمن في استخدام العلم كأداة للسيطرة علي الجنس البشري بطريقة يتداخل فيها العلمي والسياسي معا, بحيث لا يستطيع المرء أن يفرق بينهما. كما يؤكد كيتشر في هذا الكتاب علي أن العلم والممارسة العلمية ليسا خاليين من الأحكام القيمية, فالقيم- سواء كانت عامة تتعلق بأهداف الأفراد والمجتمع مثل الحرية والعدالة والديمقراطية, أم معرفية تتعلق بالالتزام بنوع محدد من المعرفة يسود مجتمع ما من المجتمعات في حقبة زمنية معينة, حيث تشكل هذه المعرفة عقلية العلماء والباحثين في تناولهم للمشكلات الجديرة بالبحث وتجاهل مشكلات أخري- إنما تمثل ضغوطا علي مسار البحث العلمي وتوجهه وجهة أخري غير تحقيق الصالح العام للبشرية. كما يطرح كيتشر أيضا في هذا الكتاب ما يسمي بالعلم المنظم الذي يعمل علي تحقيق أولويات المواطنين في المجتمع, كما يتطلب هذا العلم نوعا خاصا من الديمقراطية يختلف عن تلك الديمقراطية القمعية, علي حد تعبيره, التي تفرض شكلا واحدا ووحيدا من الممارسة الديمقراطية القائمة علي التصويت عبر الصناديق, الأمر الذي يجعل العلم المنظم يقف ضد النخبة العلمية التي لا تسمح للقاعدة الشعبية العريضة أن تبدي وجهة نظرها في قضايا علمية تنعكس علي حياتهم الشخصية والاجتماعية. والنتيجة التي توصل إليها فيليب كيتشر وأكد عليها في هذا الكتاب, هي ضرورة فرض نوع من الرقابة الديمقراطية علي العلماء وتبريراتهم ومزاعمهم, ورفض الدعوات التي تسعي لأن تكون الكلمة الأخيرة في المجتمع للخبراء والعلماء. إن مشاركة المواطنين في المشروعات العلمية الكبري التي تعود علي المجتمع ككل بالنفع يولد نوعا من المشاركة المجتمعية التي تضع في اعتبارها مصلحة الأجيال القادمة وإظهار الآثار المترتبة علي أفراد المجتمع الذين لم يولدوا بعد والذين ربما يجنوا عواقب القرارات التي يتم اتخاذها بشكل فردي من قبل المؤسسات العلمية والسياسية النخبوية. ليس هذا فحسب, بل تضع هذه المشاركة المجتمعية العواقب التي من الممكن أن تترتب علي المجتمعات الأخري من جراء النتائج التي يفرزها البحث. إن الأجندات البحثية التي تضعها النخبة العلمية وحدها دون المشاركة الجماهيرية, فيما يقول كيتشر, وخاصة في البلاد التي تمارس نوعا من الديمقراطية الغنية, غالبا ما ينقصها الكثير من الاحتياجات الفعلية للمواطنين داخل المجتمع, كاحتياجات المرأة والطفل والأقليات والبلاد النامية, وبالتالي تكون القرارات التي تتخذ ظالمة ومجحفة في أحيان كثيرة. وليس أدل علي ذلك, فيما يقول فيليب كيتشر من تطور الهندسة الوراثية في السنوات الأخيرة, حيث فتح هذا التطور المجال لتطبيقات عديدة خاصة في الطب, وهذا ما جعل العلماء يضعون جدولا للأعمال يتناسب مع المتطلبات السياسية للدول أو المؤسسات السياسية بحيث يتم استخدام هذه التطورات لفرض القوة والهيمنة سواء عبر استخدامها في المجال الاقتصادي أو في المجال العسكري. فعلي الرغم من أن التطورات التي حدثت في التكنولوجيا الحيوية والطب الحيوي قد أعطت آمالا عريضة للكثير من البشر, إلا أنه حمل في الوقت ذاته تهديدات ومخاوف خطيرة كالأسلحة البيولوجية والتلاعب بالجينات الوراثية للأجيال القادمة علي نحو يغير من طبيعتها وقدراتها وسلوكها, والنتيجة عودة مفاهيم مثل التمييز العرقي عن طريق الجينات. لمزيد من مقالات د. خالد قطب