قبل زكي نجيب محمود كانت الروح التوفيقية قد تجسدت في أعمال كثيرين يمكن اعتبارهم روادا لها بمعيار الزمن, غير أنها بقيت لديهم متناثرة في مناحي شتي, رهينة تعبير أدبي ما في رواية, أو خبيئة نزعة فنية رومانسية أقرب إلي الحدس الصوفي منها إلي التحليل العقلي كما كان الأمر في دعوي' التعادلية' لدي الحكيم في كتابه الموجز تحت العنوان نفسه, من دون أن تستقر في مشروع كبير يمتد بعمر صاحبه, مالئا كل الفراغ بين جلدات الأعمال العشرين الأخيرة من كتبه والتي تبدأ مع تجديد الفكر العربي عام1969, وتنتهي ب' عربي بين ثقافتين' عام1991, وبدرجة من العمق تنهل من التحليل الفلسفي لمكونات الثقافة القومية, بحثا عن آليات التفكيك وإعادة التركيب, وكشفا لمعايير الصدق في شتي مناحي ومكوناتات الثقافة العربية: الأدبية والفنية والعلمية والدينية, إلي الدرجة التي مكنته من صوغ منطق تلك النزعة/ المرحلة, وإلقاء بيانها الأخير بعنوان( الأصالة والمعاصرة), هذا القالب التوفيقي الذي مارس من خلاله الجدل بين ثنائياته المؤرقة هو ما ندعو الآن إلي تعديله, وبالأحري استبداله بقالب جديد هو' الخصوصية والكونية' الذي أفرزه السجال الفكري حول العولمة, بعد رحيل الرائد الكبير. ولكن لماذا' الخصوصية والكونية' بديلا ل' الأصالة والمعاصرة'؟. نؤكد أولا علي أن الصيغة التوفيقية التي جسدها الرائد, وغيره في الثقافة العربية, قد انحرفت إلي' التلفيقية' عند الممارسة العملية في معظم المجتمعات العربية. ويرجع هذا الانحراف بلا شك إلي دوافع سياسية وتاريخية شتي, غير أنه, في جانب منه, يرجع إلي نمط الشعور السلبي بالزمن والمتولد عن هذا القالب, فرغم جاذبية الصياغة' الأصالة والمعاصرة' التي مكنته من وراثة أو' استيعاب' كل القوالب التي سبقتها علي شاكلة' التراث والتجديد' أو' السلفي والحداثي' أو' المعقول والمنقول', إلا أنه قد وضع الذات العربية في علاقة سلبية بالزمن أصبحت معها اختياراتنا الفكرية الشاملة أسيرة تناقض تاريخي مستمر بين الماضي والحاضر, حيث تم تفسير مفهوم' الأصالة' في الاتجاه السلبي الذي يحدده بالزمن وينطلق به في اتجاه الماضي حيث لحظة التشكيل الأولي بكل قوالبها وأشكالها هي' مستودع' الأصالة الكاملة لدي الذات العربية, وبالأحري لدي التيار السلفي الذي نظر إلي هذه اللحظة وكأنها' فوق تاريخيه' ومن ثم قام بتثبيت هويته عندها رافضا كل ما بعدها. ومن ثم أسهم هذا القالب في تعميق شعور العقل العربي بالاغتراب إزاء صورتين متمايزتين في الفكر إذ جعل من ماضي الذات طرفا ثالثا في معادلة الأنا والآخر حيث أصبحت الذات العربية المعاصرة في مواجهة وجودين غريبين عنها, الأول منهما ينتمي للزمان حيث' ماضي الذات', والآخر إلي المكان حيث الآخر الغربي المعاصر, ما أضفي صعوبة كبيرة علي محاولة التوفيق التي لم تعد فقط بين وجودين إنسانيين مختلفتين' الذات العربية, والذات الغربية' يدخلان في صراع ينجز المركب الأرقي' التوفيقي' بل صارت بين وجود حقيقي واحد' الذات العربية المعاصرة' وبين وجودين صوريين غريبين عنه مكانا وزمانا, فازداد الواقع تمزقا بين هاتين الصورتين وانتهي به الأمر إلي الوقوع في أسر التلفيق. وفي المقابل غاب التفسير الإيجابي لمفهوم الأصالة والذي يربطه' بالكينونة' وينطلق به في اتجاه ثوابتها حيث معيار تحققها هو مدي استلهام العناصر الجوهرية لهذه الكينونة وليس الرجوع إلي القوالب والأشكال المرتبطة بلحظة نشأتها, ففي هذا السياق تتحول الأصالة عن الارتباط بالماضي نحو الارتباط بالجوهر/ الخصوصية, وهنا نصبح أمام' ذاتنا' التي تعكس تكويننا وليس' ماضينا'. ذلك أن الأصالة كمفهوم تبدو محملة ببعد' تكويني' يتمثل في المكونات الجوهرية للذات العربية من لغة وتاريخ ودين وتجربة مشتركة وغير ذلك, إضافة إلي بعد' زمني' يربط هذا الجوهر الذي لا غني عنه لنبقي عربا, بلحظة تاريخية في الماضي, وهذا هو البعد' الشكلي' الزائف الذي يتصور الهوية العربية كيانا جامدا محددا بشكل نهائي منذ بداية الزمن, ما يؤسس لحالة الجمود التي لابد من تجاوزها, ويلهم التيار السلفي الذي يرفض الحداثة بشكل مطلق, ويقع, من ثم, خارج المشروع التوفيقي. ولهذه الدواعي نقترح أن يحمل الطرف الأول في المعادلة الثقافية مسمي' خصوصيتنا' بديلا' لأصالتنا' تعبيرا عن المكنونات الأساسية للذات العربية. وأن يحمل الطرف الآخر في المعادلة نفسها مسمي' الكونية' بديلا' للمعاصرة' وصفا لتقاليد العالم الحديث خارج هذه الذات, حيث تعمل هذه الصياغة الإيجابية' الخصوصية والكونية' كآلية ذهنية ولغوية تسهل من التفاعل الجدلي' التوفيقي' بين القيم الجوهرية والحيوية الكامنة في شتي الأزمان والتجارب لأنها في بحثها عن الذات إنما تفصل بين الشكل والمضمون, أي بين الطقوس والقيم, وبين الثوابت والمتغيرات ثم تقوم بعزل القوالب: الأشكال والطقوس والمتغيرات لأنها تاريخية تعكس لحظة التشكيل وتبقي علي الجواهر: المضمون, والقيم, والثوابت لأنها تكوينية تصوغ خصوصيتنا الدائمة وتحميها من التعارض الظاهري مع الزمن, أو التناقض الزائف مع العصر. لمزيد من مقالات