كتب أبو حامد الغزالي(450-505 ه) مجموعة كبيرة جدا من المؤلفات القيمة, ومن ثم صدرت دراسات وبحوث بلغات عدة لحصر كتب الغزالي ورسائله, وبيان الصحيح منها والمنحول, وهو أمر صعب ودقيق, إذ تعوزه المعايير الحاسمة, وقد أصدر الدكتور عبد الرحمن بدوي كتابا ضخما لهذا الغرض, بعنوان' مؤلفات الغزالي'. ولعل كتاب' إحياء علوم الدين' أحد أبرز كتب الغزالي, فهو موسوعة إسلامية شاملة في مختلف علوم الشريعة والحقيقة. وقد تعرض هذا العمل الجليل كما تعرض صاحبه عبر العصور لموجات كثيرة من المدح, وأخري من الذم لموقفه السلبي من الفلسفة! والحقيقة أن الغزالي صاحب' تهافت الفلاسفة'- لم يكن يوما ضد العقل, ولا ضد العلم, ولا ضد الاجتهاد. وقد وصف أحد أهم مفكرينا في العصر الحديث- وهو الإمام محمد عبده- كتاب' إحياء علوم الدين', بأنه موسوعة لا غني عنها لكل من يسعي لفهم جوهر الإسلام وحقيقته. وأهم ما في مجلدات هذا الكتاب, هو الرؤية العميقة لجوهر ديننا الحنيف من جهة, والتعبير الدقيق عن الموقف الصحيح للمؤمن( أو المتصوف) من جهة ثانية, وكذلك إشارات المؤلف الواضحة لحقائق الحياة ومغزاها من جهة ثالثة. وقد قسم الغزالي كتابه إلي أربعة أقسام كبري: الأول( ربع العبادات) وتناول فيه فضل العلم والتعليم والتعلم, وقواعد العقائد, وأسرار كل من الطهارة, والصلاة, والزكاة, والصوم, والحج. وآداب تلاوة القرآن, والدعوات, وإحياء الليل والنهار. والقسم الثاني( ربع العادات) ويتناول آداب الأكل, والنكاح, والكسب والمعاش, والحلال والحرام. وكذلك آداب الألفة والأخوة والصحبة, والعزلة, والسفر, والسمع والوجد, كما كتب بإبداع عن أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وآداب المعيشة, وأخلاق النبوة. وفي القسم الثالث( ربع المهلكات) شرح لعجائب القلب, وأساليب رياضة النفس, وطرق تهذيب الأخلاق, وآفات شهوتي البطن والفرج, وآفات اللسان, وكذلك آفات الغضب والحقد والحسد, ثم ذم البخل, وتبعه بذم حب المال والجاه والكبر والعجب والغرور. أما القسم الرابع( ربع المنجيات) فقد بدأ بكتاب التوبة, وبعده الصبر والشكر, والخوف والرجاء, والفقر والزهد, والتوحيد والتوكل, ثم كتاب المحبة والشوق والأنس والرضا, والنية والصدق والإخلاص, والمراقبة والمحاسبة, ثم كتاب الفكر, وأخيرا ذكر الموت وما بعده. ولعل ثمة سؤال يتبادر إلي ذهن القارئ الكريم, وهو: ما أهمية كتاب' إحياء علوم الدين' الآن؟! والإجابة عن هذا السؤال هي جوهر هذا المقال, إذ إن كثيرا مما نعانية في بلادنا الحبيبة من مشكلات إنسانية وإجتماعية وسياسية وفكرية, ترجع فيما أري إلي جهل متفشي بين الناس بجوهر ديننا العظيم وأصوله الصحيحة, كما تعود أيضا إلي بعض ما يقال من فوق المنابر, وكذلك ما يبث, كل يوم ومنذ سنوات, في بعض وسائل الإعلام من تشويه لصورة الإسلام الصحيح, فمحاولات التجهيل الديني مستمرة بلا إنقطاع, إذ تقوم بها جماعات متطرفة, كما يشارك فيها دعاة متشددون يجهلون عظمة الإسلام وسماحته, وهؤلاء جميعا يتمسحون في ديننا العظيم, من أجل تحقيق أغراض دنيوية, ومكاسب مادية! ويمكنك أن تنظر إليهم بنفسك, وتقارن بين كلماتهم البراقة, وتصرفاتهم الحمقاء, وعندئذ ستراهم علي حقيقتهم التي يسعون إلي إخفائها بشتي السبل, وستتأكد أن الإسلام الحنيف منهم براء. إذ لا يمكن أبدا أن نحصر الإسلام في مجموعة من الشعائر, ولا أن نقيده في مجال العبادات فقط, ولعل هذا هو المعني الأهم في كتاب الغزالي, فثمة أسرار روحية وراء كل شعيرة من شعائر الإسلام. وكذلك هناك أعمال مهمة علي القلوب الطاهرة أن تقوم بها إلي جوار أعمال الجوارح. فلا يمكنك مثلا- أن تقوم بأداء الفروض, ولا حتي النوافل, دون أن تسبقها بإخلاص النية لله. وهكذا يمكننا أن ندرك أن جوهر الدين وعماده قائم علي إصلاح القلوب, كما أن العبادات جميعا تصبح غير مثمرة, إذا لم تنعكس بوضوح في مجال المعاملات. فالدين في جوهره معاملة طيبة وراقية مع المسلمين وغير المسلمين, وكذلك معاملة إنسانية وخلاقة مع كل المخلوقات من حيوان ونبات وجماد أيضا. أما أولئك الذين يلبسون الجلاليب القصيرة, ويطيلون لحاهم بلا تهذيب, من أجل أن يخدعوا بسطاء الناس, ويسرقوا منهم أموالهم, أو من أجل أن يحصلوا علي أصوات العامة في الانتخابات, فهؤلاء مجرد تجار, ولكنهم يتاجرون بدين الله. وكذلك من يلبسون الحق بالباطل, ويستغلون أمية جزء من شعبنا العظيم وطيبته, من أجل أن يصلوا إلي مقاعد السلطة, ويتبوؤا سدة الحكم, حتي لو سالت دماء الأبرياء, وانتهكت الحرمات, وتعطلت مصالح الناس, وزادت معاناة الفقراء, وتراكمت علينا الديون الداخلية والخارجية. وكل هؤلاء, يحاربهم الغزالي في' إحياء علوم الدين', كما يحاربهم كل صاحب دين, لأنهم يبيعون دينهم من أجل دنياهم الفانية, أو يبيعون دينهم من أجل دنيا غيرهم, وهذه أقصي درجات الحماقة, إذ إن حسابهم عند الله يوم لا ينفع مال ولا بنون, إلا من أتي الله بقلب سليم. لمزيد من مقالات د. زكى سالم