يلاحظ القراء الذين يطالعون ما كتبه الباحثون عن حياة' سيد قطب' أنهم يمرون بمرحلتي تتلمذه علي' العقاد' مرورا عابرا, مع أن دراسة هاتين المرحلتين تلقي الأضواء الكاشفة, وتظهر العقدة الحقيقية الكامنة في شخصيته وتبرز للعيان الدوافع التي حولته من الإسراف في الإعجاب بالعقاد وأدبه وهو أدب عماده الحرية الفردية والديمقراطية إلي الإسراف في التعصب الديني والدعوة إلي آراء متطرفة متهوسة جاءت إضافة جديدة تزيد من تضليل الناشئة والبسطاء وتقدم عونا مجانيا للذين يتاجرون بمشاعر الجماهير الدينية وهم في الحقيقة يطمحون إلي السلطة. تتلمذ' سيد قطب' علي' العقاد' منذ أن قدمه إليه خاله الصحفي وكان حول العقاد تلامذة آخرون منهم الشعراء والكتاب والنقاد والصحفيون والعلماء الذين تميزوا بسعة الاطلاع والتوازن النفسي وكان لكثير منهم نصيب مذكور في حياتنا الثقافية; وكان' سيد قطب' اشد هؤلاء التلاميذ صلفا وإعجابا بنفسه وحبا للاستعلاء وازدراء الآخرين وحرصا علي الشهرة والظهور, وهي صفات شخصية لا تقلل من الاعتراف بموهبته الأدبية فهو يتميز بإحساس مرهف حين يواجه النص الأدبي, وقدرة علي تذوق الألفاظ وكشف إيحاءاتها البعيدة, ولعل كتابه' التصوير الفني في القرآن الكريم' بمثابة استغلال جيد لهذه الموهبة في تحليل الصور الجميلة المعجزة في كتاب الله. ولكن المطلع علي مقالات' العقاد' يدرك علي التو أن بذرة هذا الكتاب قد أخذت من مقال مبكر للعقاد عن' الأساليب' تناول فيه سهولة العبارة وتعقيدها وضرب المثل بالأسلوب الذي يجمع بين غاية السهولة وغاية العمق بآيتين من القرآن الكريم وهما قوله تعالي:' والصبح إذا تنفس', وقوله:' إن زلزلة الساعة شئ عظيم, يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت...'إلي آخر الآية الكريمة. وقد حلل العقاد هاتين الآيتين تحليلا بين ما فيهما من أبعاد لا يحيط بها الخيال فجري' سيد قطب' في المضمار الذي ألمح إليه أستاذه. كان الرجل يدخل قبل ذلك في معارك ساخنة يدافع فيها عن شعر العقاد فخاصم نقادا عديدين من جيله, ولكن العقاد نفسه لم يكن يعول لا علي دفاع' سيد قطب' ولا دفاع غيره فهو كفيل بأن يجرد قلمه للرد علي خصومه, وأعتقد أن بصيرة العقاد لم تكن تخفي عليها بواعث' سيد قطب' إلي الإسراف الشديد في هذا الدفاع وكأنما كان يقول بلسان حاله: يعظمني في أعين الناس مادحي ليعظم بي, تبا لتلك الصغائر ويعترف' سيد قطب' في مقال كتبه ردا علي الدكتور' أحمد أمين' بأنه حزن حزنا شديدا ترك مرارة في نفسه لأن العقاد وأدباء العصر الكبار لم يكتبوا تقريظا لكتابه' التصوير الفني' ويمن علي العقاد بدفاعه المستميت السابق عنه, ولو أنه كان صادق التلمذة لما حزن; فمن اهم صفات هذه المدرسة الزهد في الشهرة وانتظار الثناء. تفكر' سيد قطب' فرأي أن بقاءه مع العقاد لن يشبع نهمه إلي الشهرة والظهور فهو هنا ظل تابع وهو يريد أن يكون النجم اللامع. فأين يجد ما يشتهي؟!. لقد انتهز فرصة عودته من أمريكا بعد البعثة التي ندبه إليها الدكتور' طه حسين', وزيرالمعارف آنذاك حيث كان يعمل' سيد قطب' فأخذ يغازل التيار الإسلامي وأخذ في التراجع رويدا رويدا عن الإعجاب بشعر' العقاد', بل أخذ يكتب المقالات في نقد فكره وطريقته في الكتابة عن الشخصيات وهو أول من يعلم تفاهة أدلته وبطلان حججه; فليس تمرده تطورا في الفكر ولا إبداعا جديدا في الرؤية الأدبية ولا إضافة يعتد بها في الحياة الثقافية, وأخذ من ناحية أخري يستخدم الأدوات الدعائية التي تستهوي المخلصين من أصحاب الحماسة الدينية مستغلا غيرتهم المشروعة علي الإسلام; فراح يردد في مقالاته أن شغل الأمريكيين والغربيين الشاغل محاربة الإسلام وأن الصحف مأجورة تخضع لمؤسسات دولية وتساهم فيها أقلام المخابرات البريطانية والأمريكية والفرنسية. وكان قد ألف كتابه' العدالة الاجتماعية في الإسلام' الذي تغشي أفكاره مسحة يسارية مع تمسح بنصوص إسلامية, واقترب كثيرا من جماعة' الإخوان المسلمين' التي كان العقاد يعاديها أشد العداء منذ اغتيالهم صديقه' النقراشي باشا' رئيس الوزراء. وعند قيام ثورة الضباط الأحرار1952 م كان' سيد قطب' يأمل أن يختار لمنصب وزاري واستقال من عمله في وزارة التربية والتعليم التي كان غير متوافق نفسيا فيها مع زملائه, وكان كثير المشاكسة لهم وظن أنه سوف يعود إليها وزيرا; ولكن الرئيس' جمال عبد الناصر' قبل استقالته فورا ورفض أن يضيف إلي مدة عمله عامين ليأخذ راتب التقاعد, فلما أحبط أمله ألقي بثقله وكل طاقته في خدمة جماعة الإخوان المسلمين; فهنا سوف يجد الزعامة التي عاش يحلم بها فكان قائدا للتنظيم السري ومنظرا للفكر واستغل قدرته الأدبية في نشر أفكاره المتطرفة سواء في ثنايا عرضه الأدبي لأبعاد الآيات القرآنية في كتاب' في ظلال القرآن' أم في كتابه الذي نشره بعد خروجه من السجن' معالم في الطريق', والذي يذهب فيه إلي أن مجتمعاتنا العصرية جاهلية ومنها المجتمع المصري فهي كافرة وواجب أهل الإيمان أن يعملوا علي محو الكفر والكافرين من الوجود, وأن يضيقوا عليهم ما وسعهم التضييق, وأن يعاملوهم باستعلاء كاستعلائه هو علي الناس وكان حتما أن ينتهي أمره إلي ما انتهي إليه خاصة في ظل نظام شديد الوطأة مؤيد بمشاعر وطنية جارفة, فحكم عليه بالإعدام ونفذ الحكم فقال قوم:' هو شهيد الإسلام' وقال العالمون ببواطن الأمور الدارسون للطباع البشرية:' هو ضحية طموحه المسرف وحبه للعلو في الأرض الذي ذمه الدين'. لمزيد من مقالات د. محمد فايد هيكل