وضع الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهور بصمته علي تاريخ الفكر الفلسفي من زاويتين: الأولي هي نزعته الشخصية التشاؤمية, عكس الفلاسفة الألمان المثاليين, الذين عرفوا بتفاؤل واضح. والثانية هي نزعته الفلسفية الإرادية التي ضمنها كتابه الأثير( العالم كتصور وإرادة), إذ اعتبر الإرادة جوهر الوجود الإنساني وليس العقل كما قال جل الفلاسفة قبله, وربما بعده. فالمعرفة لديه تنبع من إرادة الإنسان العاقلة, وكل وجود خارجي مرده إلي الذات الإنسانية, التي في إمكانها أن تستنتج كل قوانين العالم من داخل نفسها. وهنا يكمن تناقض واضح لم يسعي الفيلسوف نفسه إلي تفسيره, فالنزعة الإرادية التي تجعل إرادة الإنسان في حال اتحاد دائم مع إرادة العالم, ومن ثم قادرة علي التأثير فيه, تفترض أن يكون الإنسان بالغ التفاؤل لا التشاؤم, ولما لا وهو القادر علي تغيير العالم بحسب إرادته؟. ويمكن الادعاء هنا بأن فريق النادي الأهلي لكرة القدم, بانجازه الأخير في دوري الأبطال الإفريقي, يمثل نموذجا تطبيقيا لحل هذا التناقض بين الإرادة والأمل, حيث كان الأهلي مريدا للبطولة, متفائلا إلي درجة اليقين بأنه البطل ولو أنه فقد هذا اليقين للحظة واحدة لتوقفت إرادته, وغابت روح البطولة عنه, فما كان الإنجاز ليتحقق, وما كانت( الشخصية الأهلوية) لتتألق. لا تعدو تلك الشخصية أن تكون تنويعة علي لحن الشخصية المصرية( الأم), فإذا كنا لا نميز الأجساد إلا بملامح الوجوه, ولا البشر إلا بجواهر الروح, فإن الأمم والشعوب كذلك ليست أجسادا صلدة ولا كتلا مصمتة, بل تكوينات حضارية تصنعها ثقافات, وتؤثر فيها مناخات, تتبلور في مؤسسات وكيانات, تعطيها المعني وتمنحها الحضور. وإذا كانت مصر تمتعت بالشخصية الأكثر عراقة في التاريخ, وثراء في التركيب, فإن ثمة كيانات أسهمت في تبلور هذه الشخصية, أو انعكست عليها أكثر من غيرها, فصارت ملفوفة في ملامحها, حاملة لقبس من نورها, وسرا من أسرار عبقريتها, وفي قلبها يأتي النادي الأهلي. لم يكن فريق الكرة بالنادي منذ نشأته قبل مائة وستة من الأعوام, سوي بطلا, نشأ في قلب حركة وطنية, فأحبه المصريون وشجعوه.. امتلك شخصية حكيمة كشخصية مصر, وقاعدة كبيرة بامتداد أرضها وانتشار أهلها, صنع تاريخا رياضيا يشبه تاريخها الحضاري, لعب دورا ملهما في المحيط العربي يوازي دورها السياسي والثقافي, ومكنته انتصاراته من تصدر القارة الإفريقية علي نحو يتفق وريادتها التي كانت لها, وذلك بفضل روح بطولية تولدت لديه وصنعت شخصيته المتميزة, جيلا بعد جيل. واجه الأهلي عاما هو الأصعب في مسيرته, حيث انقلبت عليه رابطة مشجعيه, وأفرزت ضده من الضغوط ما أصبح معها الفريق منبوذا, تغلق الملاعب في وجهه, ويشعر بالغربة داخل وطنه, فيلعب صائما بمكان قصي, في درجة حرارة قاتلة.. تحالفت ملابسات كثيرة ضده فأوقعته أسيرا لعثرة طارئة جعلت بداية البطل مأساوية, إذ مني بهزيمة فاضحة لنادي من طرازه, وفريق من معدنه, ناهيك طبعا عن هزيمة غانا التي كسرت كبرياء أغلبهم, قبل النهائي الإفريقي بأيام قليلة. لم يكن أحد يعلم آنذاك, أن عثرة البداية( طارئة), فقد كان ممكنا أن ينقلب الأمر رأسا علي عقب, فيرحل مدرب ويأتي أخر, وتبدأ دورة فشل كبري, لكن النادي الكسير ظل كبيرا, مؤمنا بأنه( الأهلي) نادي القرن في القارة الأفريقية, وتميمة حظ الأندية الحاملة لاسمه في أربعة أنحاء بالمنطقة العربية. لقد آمنت إدارة النادي, وصدقها أعضاء الفريق أن الهزيمة( طارئة), فجعلوا من إيمانهم الداخلي حقيقة واقعية رأتها العيون, وباركتها الأقدار التي انحازت إليهم, عندما وضعت أمامهم الفريق الذي كسرهم, لتزيد من دوافعهم, فتمنحهم فرصة الثأر( الكروي), وتجعل من مشهد الانتصار ردا علي مشهد الإنكسار, بفعل روح بطولية لا تعرف الهزيمة وإن خسرت, ولا تعرف اليأس وإن تعثرت. هكذا بدي الأهلي بالأمس تجسيدا لمصر, لكن وهي في عز مجدها, وقمة كبريائها الذي كان لها, حيث ارتسمت علي وجهه المنتصر معالم حضورها الطاغي حينما كانت قائدة لحركات تحرر الشعوب قبل أن تصبح ملعبا ترتع فيه تلك الشعوب. كما بدي حضور لاعبيه علي المستطيل الأخضر وكأنه حضور سيدة الغناء العربي علي مسرح الفن الكلاسيكي, ذلك الحضور المفعم بالكبرياء, والصوت الذي ينشد الخلود, وهو حضور يغاير تماما ولا يشبه أبدا ذلك الحضور العشوائي للفنان الذي يحب الحمار ويغني للبلح والعنب, والذي صار حضوره للأسف هو الأكثر تعبيرا عن مصر التي تراجعت كثيرا في ثلث القرن الأخير, وتدهور حال كل المؤسسات التي صاغت شخصيتها, والسؤال: لماذا كان الأهلي يشهد ذروة تألقه, فيما تعاني مصر ذروة تدهورها؟ يكمن السر في قيمة( الحرية) التي هي موطن النزعة الإرادية حسب شوبنهور. فالوجود الأهلاوي, كنادي رياضي, منفتح بطبيعته, يدار في مناخ حر حيث تتغير الإدارة بإرادة أعضاء واعين في عرس انتخابي طالما عايشته بنفسي, مكن الأهلي من تجديد روحه عبر تغيير طوعي وتدريجي لقياداته. وهو ما افتقدته مصر التي دخلت في استبداد طويل بدأ في خمسينات القرن الماضي ناصريا, عادلا وفعلا, ولكنه استحال مع مبارك غاشما بلا عدل ولا فاعلية, قادنا من الثبات الهائل والجمود القاتل نحو التغيير المتسارع والفوضي العارمة. والمصيبة الكبري أن الدولة التي فشلت في إدارة نفسها, وتبدو عاجزة أمام أطلال المشكلات التي تواجهها, هي نفسها التي تسعي اليوم إلي التدخل في إدارة النادي الكبير, الكيان الوحيد الذي بقي علي تألقه, وكأن نجاحه قد عز عليها فيما تعاني هي الفشل, فأرادت أن يتساوي معها كي لا يفضحها, ولذا تسعي إلي فرض لائحتها عليه, وربما تعيين إدارة مؤقته له, تجاهلا لإرادة أعضائه, وتكسيرا لنموذج من النجاح لعلها تفتقر إليه, وربما تحتاج إلي التعلم منه. لمزيد من مقالات صلاح سالم