لعل من الحقائق الثابتة الجغرافية أن مصر دولة أفريقية أرتبطت عبر تاريخها الطويل بشعوب حوض النيل والقرن الأفريقي, وتكونت الصورة الذهنية التراكمية لدي رجال الدولة المصرية أن أفريقيا هي القارة السمراء التي تقع جنوب الصحراء الكبري, وأن المعوقات الجغرافية التي تتصف بها كانت دوما عامل فرقة وتباعد, وليس عامل وحدة وتكامل. وكان الدرس الأول في جغرافية العلاقات المصرية الأفريقية أن مصر أرتبطت مبكرا جدا بشرق القارة أرتباطا تجاريا حيث ترجع أول محاولة مسجلة عند الفراعنه لضمان علاقات تجارية صحيحة مع هذا الأقليم إلي الأسرة الخامسة عندما أرسل الملك ساحورع(27312743 ق.م) حملة ناجحة عبر الصحراء الشرقية وعلي طول الساحل الأفريقي, وتلتها رحلات كثيرة أشهرها رحلة أسطول حتشبسوت في الأسرة الثامنة عشرة(1490-1458 ق.م) إلي بلاد بونت, واستمرت العلاقات بعد ذلك في العصور التالية عن طريق شرايين التواصل البحرية عبر البحر الأحمر ودروب الصحراء والتي أشهرها درب الأربعين, وكان الأتصال الأفقي عبر الساحل الشمالي للقارة غالبا علي الإتصال الرأسي من الشمال للجنوب, وأستمر ذلك حتي طوال المرحلة الإستعمارية التي أعقبت حركة الكشوف الجغرافية منذ بدايات القرن السادس عشر, وأسهمت الصحراء الكبري بالدور الأكبر في إعاقة الإتصال بين الشمال والجنوب. وقد إرتبطت أفريقيا الأرض والإنسان في مخيلة الثقافة المصرية الحديثة بالجهود التي بذلت منذ عهد محمد علي ومحاولاته الوصول إلي أعالي النيل ومرورا بإسماعيل من بعده حتي كونت مصر ماعرف بالإمبراطورية المصرية التي إمتدت في عهده حتي مشارف خط الإستواء, وكان ذلك في الواقع إيذانا بإهتمام المصريين المحدثين بأفريقيا النيلية وظل باقي القارة المدارية بعيدا عن هذا الإهتمام حتي المرحلة الناصرية منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين, تلك المرحلة التي جسدت الإهتمام الحقيقي بالقارة تجسيدا مازال الكل يستدعيه في ذاكرته عندما يأتي الحديث عن العلاقات المصرية الأفريقية, حيث كانت مصر آنذاك قبلة زعماء التحرر الأفريقي من ربقة الإستعمار الأوربي, ومازال هذا الرصيد ماثلا في الذاكرة الأفريقية المدارية مرتبطا بمصر الناصرية ودورها المحوري في مقاومة الإستعمار في القارة التي تحتل المرتبة الثانية بين قارات العالم بمساحة تقترب من خمس مساحة يابس الأرض, ويعيش بها نحو مليار نسمة أو نحو15% من جملة سكان العالم, ويتزايدون بمعدل3,2% سنويا وهو ضعف المعدل العالمي للزيادة السكانية, كما يتوزعون جغرافيا علي أربع وخمسين دولة في يابس القارة والجزر المحيطة بها, ويتباين كل منها في المساحة والسكان تباينا كبيرا, وتتعدد فيها اللغات واللهجات والأعراق والديانات نتيجة للتقسيم السياسي الأوروبي الإصطناعي. لقد أسهمت الكتابات الأوربية في تكوين صورة ذهنية عن الإنسان الأفريقي, وهويته من خلال الدراسات الأنثروبولوجية المبكرة ووصف الشعوب والقبائل في أفريقيا جنوب الصحراء, وأصبحت الإزدواجية سمة غالبة علي الهوية الأفريقية, حيث الولاء للقبيلة من ناحية وللدولة بحدودها الحديثة من ناحية أخري, والواقع أن ماكتبه الغربيون عن القارة وسكانها, وغذته بعض الكتابات المتعصبة كان الرافد الرئيسي الذي تحددت من خلاله ملامح الصورة النمطية عن الإنسان الأفريقي, ورغم أن أفريقيا هي مهد البشرية, فقد صورها الأوربيون مبكرا قارة مظلمة يستعصي كثير من دولها علي التحديث والتطوير بسبب ظروف البيئة الطبيعية, والمشكلات القبلية, وذلك كله رغم الممارسات الأوروبية ضد سكانها الأصليين منذ تجارة الرقيق وإستنزاف الموارد, وربط المستعمرات حتي بعد إستقلالها بالدول التي إستعمرتها من قبل. ومن هذا المنظور فإن العلاقات المصرية الأفريقية لابد أن تستند إلي فهم حقائق القارة, وعدم النظر إليها نظرة كلية( جشتلطية) بل أن لكل إقليم شخصيته علي حده, وعلي الأخص في أفريقيا غير العربية, جنوب الصحراء, لأن ذلك الفهم المتعمق هو أساس التعامل الجاد والفعال في فهم مشكلات التنمية المستدامة, وكذلك فهم الهوية الوطنية التي تحددت ملامحها عبر مؤثرات محلية وإقليمية ودولية, ولعل أبرزها المؤثرات الثقافية المرتبطة بالأديان السماوية التي وفدت إلي القارة من خارجها, والتحول إلي لغات وافدة مثل اللغة العربية التي إرتبطت بإنتشار الإسلام, أو اللغات الأوربية التي جاءت بها القوي الإستعمارية للقارة, حتي ظهرت بها في النهاية أكثر من منطقة ثقافية مرتبطة باللغة في المقام الأول, إضافة إلي المناطق الثقافية الوطنية ذات اللغات المحلية, مما أدي إلي أزدواجية ثقافية في الصورة الذهنية عن الذات وعن الآخر سواء في أفريقيا العربية في الشمال, أو أفريقيا غير العربية فيما وراء الصحراء. ورغم أن أفريقيا الآن قارة مستقلة, ورثت دولها حدودها السياسية حديثا وتنطوي علي حضارات شكلها تنوعها فإنها في النهاية مستودع ثقافي هائل لايزال بكرا, ولم تتحرر بعد من صدمة الإستعمار خاصة علي المستويين التعليمي واللغوي, ولاريب أن علاقات قوية تربط مصر بدول القارة نظريا خاصة دول حوض النيل, ومن هنا كانت هناك مصالح مشتركة إرتبطت بنهر عظيم علم ساكني ضفافه التعاون ومواجهة التحديات. علي أن التزايد السكاني في دول الحوض وأفريقيا عامة أدي إلي خلل في العلاقات بين السكان والموارد, وتلك المعادلة المختلة تظل هاجسا للعلاقات السوية بين دول القارة رغم أنها مدعاة لتعاون مشترك يجسد الحرص علي المصالح المشتركة بين مصر وبقية الدول الأفريقية, ويصبح فهم هذه المعضلة الديموغرافية أساسا للتعاون المشترك بين مصر والدول الأفريقية وعلي الأخص دول القارة الضخمة سكانيا وفي مقدمتها نيجيريا وأثيوبيا. وتواجه دول أفريقية كثيرة تحديات تنموية شتي ناتجة عن الفقر المادي والأمية والأمراض وإنخفاض قيمة الحياة والصراعات السياسية والفساد وغياب الديموقراطية الحقيقية, وظهور تيارات متطرفة اتخذت من السلاح سبيلا لفرض إرادتها علي النظم السياسية القائمة. وتصبح هذه الدول في حاجة إلي عون خارجي تعجز عنه مصر في ظروفها الحالية وإن كان ذلك هو المفتاح الأساسي للعلاقات المصرية الأفريقية الرشيدة. والمتأمل في علاقات مصر بأفريقيا جنوب الصحراء يدرك أنها تتأرجح صعودا عندما تقوي مصر داخليا, وهبوطا عندما تضعف, ودلالة ذلك في مقارنة مصر في المرحلة الناصرية, ومصر في المرحلة الحالية, ويفضي ذلك بالضرورة إلي تساؤل حاسم عن سياسة مصر تجاه أفريقيا المدارية بعد ثورة يناير2011 وتصويب مسارها في يونيه2013, وهنا فإن الحديث عن تطوير هذه العلاقات وتنميتها يظل رهنا بالمتغيرات الداخلية وإنعكاساتها الخارجية, وتنامي قوة مصر لتنعكس في النهاية علي تقوية العلاقات بينها وبين دول القارة جنوب الصحراء, فهل تظل علاقاتنا بهذه الدول رهنا برؤية مؤقتة؟ أم وفق إستراتيجية يضعها المتخصصون, وتتبناها الحكومة خاصة أن هناك دولا أخري من خارج القارة تغولت في نفوذها بالقارة, في الوقت الذي تراجع فيه الدور المصري. ومن الخطأ والخطر أن تختزل العلاقات في التجارة والإقتصاد فقط أو في إحتياجات مصر من مياه النيل, بل آن الأوان لإحياء دور قوة مصر الناعمة ممثلة في التعليم والبحث العلمي والتدريب والإعلام والثقافة, والعمل المشترك مع منظمات المجتمع المدني لإظهار الصورة الحقيقية لمصر وللأفارقة وحضارتهم, حتي تستوعب الأجيال الجديدة ذلك. لمزيد من مقالات د. فتحي أبو عيانه