يجب أن نوضح منذ البداية أن الدين المقصود هنا ليس الدين بعامة, وإنما الدين في السياق الأوربي, ومن ثم يكون الدين هو المسيحية الكاثوليكية كما تشكلت في العصور الوسطي بكل ميراثها المناهض للعقل والذاتية الإنسانية. كما أن المسيحية الشرقية المصرية ليست مقصودة هنا; لأنها لم يكن لها مشكلة مع العلم, ولم يكن فيها في يوم من الأيام محاكم تفتيش مثل التي شهدتها أوروبا. وكذلك إذا كان التنوير هو إعمال العقل, فالعقل المقصود في سياق هذه المقال هو العقل كما تشكل في السياق الغربي, وليس العقل بعامة.. نقول هذا حتي لا يحدث التباس عند البعض عند قياس علاقة الإسلام بالعقل والتنوير في الشرق أو في الأندلس, علي علاقة المسيحية بهما في الغرب, فليس للإسلام كنص مقدس( لا كممارسة) مشكلة مع العقل ولا مع التنوير, ولا مع العلم. بعد أن حددنا المقصود بالدين في هذا السياق; يبقي واجبا أن نحدد المقصود بالتنوير الذي نبحث عن علاقته بالدين. إن التنوير هو حركة فلسفية أوروبية تؤكد علي استخدام العقل كمعيار نهائي, ورفض سلطة الإقطاع والكنيسة; بسبب محاربتهما العلم, وتؤمن بالقانون الطبيعي, وحقوق الإنسان, ومن ثم تؤسس حركة التنوير فهمها للوجود علي العقل دون مجاوزة هذا العالم; فمرة تكون الشرعية مستمدة من العقل, ومرة أخري تكون مستمدة من الطبيعة, لكنها عند التنويريين الغربيين ليست مستمدة أبدا من اللاهوت. وقد ظهر التنوير الديني في أوروبا منذ مطلع العصر الحديث, كرد فعل علي معاناة شعوب أوروبا لقرون طويلة من افتقاد القدرة علي أن تفكر لنفسها; حيث كانت الدولة تقوم علي اتصالية لاهوتية ما بين الأرض والسماء, وكان مبدأ السلطة يتنزل من فوق إلي تحت, وكان البابا, ممثل الإله علي الأرض, هو الذي يرسم الملوك وأباطرة الإمبراطورية الجرمانية الرومانية المقدسة. وكان رجال الدين هم فقط الذين يفكرون ويريدون ويحتكرون كل شيء, ويقيمون محاكم التفتيش ويتهمون المفكرين والعلماء المبدعين بالهرطقة مثل: برونو الذي تم إحراقه, وكوبرنيقوس الذي قال بدوران الأرض حول الشمس, و جاليليو الذي قال بنفس القول وكان سيعدم لولا تراجعه خوفا. وقد كانت حركة الإصلاح الديني البروتستانتي( وهي متأثرة بالإسلام في تأكيده علي العلاقة المباشرة دون وساطة بين الله والإنسان, وفي حق كل فرد في قراءة الكتاب المقدس...إلخ) قد أحدثت الانشقاق الأول ما بين المجالين الروحي والزمني. فمع أن هذه الحركة أرادت نفسها دينية خالصة, إلا أن خروجها علي السلطة البابوية هو ما أفسح المجال لاستقلال الدول عن الكنيسة الكاثوليكية المركزية.كما أعيد في حركة التنوير تشكيل حقل القانون بعيدا عن النظام الكنسي اللاهوتي وفي اتجاه التأسيس للنظام السياسي الإنساني علي أساس المواطنة, وكان للفكر السياسي اليوناني والفكر القانوني الروماني تأثير في ذلك. وقد ذهب كانط في مقال بعنوان:' ما التنوير؟'(1784 م) إلي أن التنوير هو التفكير العقلي بشجاعة, فقال:' كن جريئا في إعمال عقلك. هذا هو شعار التنوير'. هذا التعريف الواسع يمكن أن يري مع اختلافات قليلة في أعمال مفكري التنوير: مونتسكيو, جان جاك روسو, ولاميتري, وفوجيريه, وفولتير, وهولباخ, وديدرو, وكنت, وتوماس بين, وهيوم, وأديسون, وجيفرسون ثالث رئيس للولايات المتحدة(1801).. الخ. وقد أطلق علي القرن الثامن عشر: عصر التنوير, حسب الأشيع في كتب التواريخ الفكرية. لكن يوجد خلاف حول التحديد الزمني والجغرافي له. فإذا كان التنوير هو التفكير العقلي بشجاعة, فإن هذا الوصف ينطبق أيضا علي التقليد الإنجليزي في مجال الدين, القائل بأن القضايا الدينية ينبغي أن تختبر عقليا, أو أنه لا يجوز الإيمان بخوارق الطبيعة. وتأكيد فاعلية العقل المعرفية والسياسية, ورفض الأحكام المسبقة, وخاصة منها المبنية علي سلطة دينية. كما يؤرخ البعض لبداية التنوير الأوربي بظهور' عريضة الحقوق' في إنجلترا سنة.1689 ويري' كريستوفر هل' في كتابه الأصول الثقافية للثورة الإنجليزية'(1965) أن أفكار التنوير في إنجلترا كانت ذائعة في القرن السادس عشر; حيث اتخذت- من ناحية- طابع حركة اجتماعية وفكرية مناهضة للحلف المقدس المبرم بين الإقطاع والكنيسة. كما اتخذت من ناحية أخري- طابع التحرر من الأوهام والخرافات في فهم الدين والطبيعة. وحسب هذا الطابع الأخير لا يمكن تجاوز أعمال فرنسيس بيكون في تنوير العقل وتحريره من أوهام لاهوت العصور الوسطي المسيحية, مثل' الأورجانون الجديد' الذي فضح فيه أصنام الفكر, مثل أوهام القبيلة, وأوهام الكهف, وأوهام السوق, وأوهام المسرح. وقد اعتقد لوك أن المبادئ الإلهية والأخلاقية قابلة لإقامة البرهان العقلي عليها, لكنه أكد علي وجوب سيادة قانون الطبيعة, وسيادة مبدأ الحرية. وطرح فكرة العقد الاجتماعي لمواجهة الاستبداد السياسي الملكي أو الديني, تأسيسا علي نهج' القانون الطبيعي'; لأنه لا يجد أي حق إلهي لرجال الدين والملوك. وقد أدي اتساع وانتشار العلوم والحرب الأهلية في إنجلترا إلي ارتفاع حركة الإلحاد والتشكك في المسيحية. كما أدت الأسفار حول العالم إلي اكتشاف أديان عظيمة أخري. وصار نقد الإلحاد دليلا علي سعة انتشاره. وقام القائلون بالدين الطبيعي بالمناداة بعقيدة تؤمن فقط بوجود الله والخلود وعدم الإيمان بالأسفار المقدسة. وشكك التوحيديون في المساواة بين المسيح والأب, ولكنهم عادة ارتضوا الكتاب المقدس نصوصا إلهية.. أما الربوبيون, الذين قاموا بحركتهم أساسا في إنجلترا, فإنهم طالبوا فقط بالإيمان بالله المجرد من غير اعتقاد بديانات منزلة. وبرزت لفظة' ربوبي'Deist في1627 في' رسالة إلي ربوبي' لرئيس الشمامسة إدوارد ستللنجفليت, ولكن مطبوعات الربوبيين كانت قد بدأت مع لورد هربرت شربري في كتابه' الحقيقة'.1624 وتابع تشارلز بلونت, أحد مريدي لورد هربرت, رسالته في كتاب' النفس البشرية'(1679). ويعد كتاب كولنز' بحث في التفكير الحر'(1713) أحسن شرح للربوبية في هذا العصر. وواصل حركة الربوبية في إنجلترا: وليم هويستون, وماتيو تندال, وتوماس تشب, وكونيرز مدلتون, وانتقلت عن طريق بولنريك والفيلسوف شافتسبري إلي جيبون وهيوم الذي يمكن تحديد موقفه من الدين علي أنه نفي وإنكار; فهو, مثلا, لا يجيز الإيمان بخوارق الطبيعة. يقول:' إن حماقة الناس وخداعهم هما من الظواهر العامة حتي إنني أفضل الاعتقاد بإمكان اتفاقهم علي أن أكثر الحوادث شذوذا قد وقعت من أن أسلم بخرق واحد واضح لقوانين الطبيعة'. ويمكن القول بأن للتنوير الإنجليزي تجليات أمريكية, نجدها عند توماس بين مؤلف منشورات الثورة الأمريكية, حيث رفض سلطة رجال الدين, وطالب بإبعاد اللاهوت عن السياسة, أما توماس جيفرسون ثالث رئيس للولايات المتحدة(1801), فقد أصدر وثيقة فيرجينيا للحرية الدينية. وكانت هذه الوثيقة معبرة تماما عن موقف تنويري تجاه العقائد الدينية. وقد وصل التنوير الأمريكي ذروته مع جناح مسيحي من العلمانية في شكل ما يسمي باللاهوت العلماني, حيث ذهب هذا الجناح إلي أن الإله المفارق لم يعد له أي مغزي, وأن المسيحية التاريخية فقدت فاعليتها, إذ أصابها التشويه عندما حاولت مواجهة قضايا العصر; وبذلك انفصل اللاهوت العلماني عما هو مقدس, وأصبح خاليا من مفهوم ما هو فائق للطبيعة, فآثر أن يسمي إنتاجه ب'المسيحية الدنيوية'. هكذا وجدنا أن التنوير الإنجليزي بخاصة, والتنوير الأوربي بعامة, قد أدي إلي تصدع السلطة الزمنية للمؤسسة الكنسية, وقلب الرؤية الدينية المسيحية للعالم, وتراجع الأيديولوجيات اللاهوتية, وحلول النزعة الإنسانية محل النزعة الكنسية الإلهية المفارقة في تنظيم العالم الإنساني, وبزوغ الفكر السياسي الذي يفصل ما هو ديني عما هو سياسي, فمبررات وجود الدولة تكمن فيها, وهي ليست آتية من فوق, بل نابعة ومسوغة من تحت( أي من المواطن). H أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة لمزيد من مقالات د. محمد عثمان الخشت