إذا لم يكن نظامك قويا بما يكفي لتحمل نكتة.. إذن ليس لديك نظام "المذيع الأمريكي الساخر جون ستيوارت " مهما حاولت إدارة قناة تليفزيون سي بي سي أو أقسمت حتي انها حسنة النية من هنا وحتي اخر يوم في إرسالها لن يقتنع أحد أنها أوقفت الموسم الجديد من برنامج باسم يوسف إلي أجل غير مسمي, فقط, لأنه لم يلتزم بشروط اتفاقه معها وبسياستها التحريرية!.ولابد أن الكثيرين بخبرة وقائع سابقة متكررة في تاريخنا يفترضون الآن بلا ذرة شك أن البرنامج لم يمنع إلا لأن المحطة تلقت أوامر عليا أو تعرضت لضغوط لإسكات باسم والتضييق عليه بعد الحلقة الأولي في موسمه الجديد التي أثارت عليه طوال الاسبوع الماضي عاصفة واسعة من الاحتجاجات من جانب الذين رأوا أنه خرج علي النص وأساء إلي البلد وإلي المؤسسة العسكرية. وأكثر من ذلك كانت هناك اتهامات من العيار الثقيل لباسم ليس أقلها: العمالة والشذوذ وتهديد الأمن القومي وتشويه ثورة يونيو وإهانة الرموز الوطنية.. وإلي الحد الذي يكشف السرعة التي يمكن ان ينقلب بها المزاج العام للشعوب رضاء وسخطا ولأهون سبب, فيصبح فجأة النجم الساخر الشاب الذي رفع فوق الأعناق للإشادة بشجاعته في مواجهة حكم الاخوان, عدوا للشعب وتتحول جرأته وخفة ظله الي مؤامرة وجريمة يجب التحقيق فيهما ومع صاحبهما. ولأن السخرية ليست حكرا علي أحد, يبقي باسم في أي لحظة هدفا مشروعا لضربات تحت الحزام من كل نوع من جانب الذين ينضمون إلي قائمة ضحاياه اسبوعا بعد اسبوع.. وبعضهم حاول مثلا ان يغيظه فوصفه بأنه ليس إلا بهلوان أو بلياتشو لكن باسم الذي لا يري ما يعيبه في هذه التسميات يردد بفخر في كل فرصة أنا فعلا المهرج الذي يهاجم من في السلطة, وأنه مثلما كانت مهمة الأراجوز في تاريخنا القديم هي السخرية من الحكام الظالمين.. فإنه يحاول منذ ثورة يناير أن يواصل الدور نفسه بأن يكشف للناس حجم الزيف والكذب والخلل في السياسة والأخلاق والسلوك والأفكار. وهو هنا لا يريد أن يضحك السلطان أو يتفرغ لهجاء أعدائه, إنما يريدنا نحن أن نضحك علي السلطان والسلطة.. وهذا تحديدا هو ما يجعل المهرج أقوي من الحاكم وعدوا يجب منعه من الكلام! بعد قليل أو كثير, سيقف باسم مرة أخري أمام جماهيره( البعض يقدر عددها بما يتجاوز30 مليونا في مصر والعالم العربي!) في نفس القناة, أو في قناة جديدة تتحمل شطحاته و لسعاته, أو ربما يعود اليهم عبر الانترنت حيث تعرفوا علي موهبته لأول مرة.. لكنه سيظل في أي حال يواجه اسبوعيا نفس الحيرة التي لخصها هو بطريقته في مقال أخير له: هاااه حتتكلم علي مين المرة دي؟. وربما يضاعف المشكلة الان أن الاخوان والرئيس السابق محمد مرسي الهدف المفضل لباسم طوال عام وأكثر خرجوا من السلطة, ولم تعد هناك أهداف كثيرة سهلة يمكن ان يصوب عليها سهامه اللهم إلا نجوم ثورة يونيو وحكام مصر الجدد. وبالتالي فإنه إذا ما انتقدهم بنفس طريقته اللاذعة سيضع نفسه كما أثبتت الحلقة الأولي المثيرة للجدل في مواجهة كتلة التأييد الجماهيري الكاسحة لأبطال هذه الثورة, بما يمكن ان يفقده معسكر أنصاره التقليدي المعارض الشرس للاخوان, والذي أصبح مؤيدا للمؤسسة العسكرية بحماس بالغ. غير أن المأزق الحقيقي لباسم يوسف أكبر من ذلك بكثير, فهو يلزم نفسه كل مرة بأن يرفع السقف أكثر, وبأن يثبت انه لا يجفل أو يهرب من المواجهة وبأن يواصل ممارسة حقه في التعبير عن ارائه في كل الظروف دون ان يعفي أحدا من دعاباته بصرف النظر عن التكلفة, ثم وهو يؤكد في كل لحظة ان أحدا لا يملي عليه ما يفعله. لكننا لسنا في أمريكا التي استهلم منها شكل برنامجه ونبرته. مازلنا في الشرق. والحرية ليست بالتأكيد هوجة ولا هي مطلقة( حتي بمعايير الغرب الرحبة) وهناك قوانين تضبط مساحتها. ولابد أن باسم سيكتشف انه لا يستطيع أن يتجاهل طويلا تحفظات من لا يعجبهم بعض ما يقدمه وبالذات إذا كان منفلتا وخارجا وخادشا للحياء, وربما يفيده كثيرا لو أنه ادرك ان بعض الحكمة في اختيار ما يعرضه لا يعني تقييد حريته ولو انه تساءل أيضا خلال مراجعته لحسابات هذه الأزمة: كم مرة أفلت منه ذلك الخيط الرفيع الممتد بين حدود النقد المباح وشبهة التشهير والاستهزاء بمن شاء حظهم العثر أن يسلخهم في برنامجه. علي الجبهة الأخري فإن أهل النخبة والسياسة والحكم والإعلام والأحزاب هم ايضا في ورطة مماثلة, وبديهي أنهم لن يكونوا أول من يصفق أو يضحك إذا طالتهم سخرية باسم أو غيره أو كانت علي حسابهم, لكنهم ايضا علنا علي الأقل لا يريدون ان يبدوا أبدا وكأنهم اعداء للحرية والابداع, يفقدون أعصابهم إذا هوجموا ولا يقدرون الفكاهة أو يتذوقون النكتة. المشكلة إذن هي في ذلك الخط الفاصل الذي تنتهي عنده حريتك وتبدأ حرية غيرك. أنت حر ما لم تضر هكذا كان يقول لنا أبي رحمه الله في كل مناسبة ممكنة. ولهذا فأنت وأنا ونحن معا في هذا المأزق, وإذا ضبطت نفسك بعد ذلك متلبسا بالشماتة أو الفرح لوقف البرنامج( أي برنامج) لأنه لم يعجبك أو لأنه نال ممن تحبهم.. أرجو أن تراجع نفسك وأن تتذكر انه مثلما هو حقك أن تستلقي علي ظهرك ضحكا أو أن تلعن باسم فإن ذلك لا يلغي حقه في المقابل في أن يقول ما يريد حتي لو لم تكن موافقا. ولو أنك فهمت ما يحدث في نهاية المطاف باعتبار أنه اختبار جماعي لمساحة التسامح في حياتنا ولمدي قبولنا للاختلاف فإن المسألة لن تتطلب تفكيرا طويلا قبل ان تحسم: في أي صف تقف وأي حرية تريد.. وأيا كان رأي السلطان. ولهذا سأتخلي اليوم عن وقاري لدقيقة واحدة وأردد مع أنصار باسم هتافهم الشهير في بداية كل حلقة: جود لاك يا بااااسم! لمزيد من مقالات عاصم القرش