يحمل بعض الناس خاصة من لا فقه عنده بعض نصوص الشرع علي غير معناها الحقيقي, ليا لمدلولها الذي وضعت لإفادته, رغبة في الاستدلال به علي حكم لا يدل عليه النص بمنطوقه أو مفهومه من قريب أو بعيد. ومثل هذا الحمل ناشئ عن فهم سقيم لنصوص الشرع, وجهل بكيفية الاستدلال بها علي الحكم الشرعي, ترتب عليه كثير من الخلل الفكري, الذي ما زالت بعض المجتمعات الإسلامية تعانيه حتي يومنا هذا. ومن النصوص الشرعية التي كان لها الحظ الأوفر من سوء فهم البعض لها وجهلهم بمدلولها, وكيفية الاستدلال بها علي الحكم الشرعي, حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم المتعلق بتأبير النخل, فإن رسول الله صلي الله عليه وسلم لما هاجر إلي المدينة, وجد أهلها يؤبرون النخل, فاستقبح ذلك منهم, وأشار عليهم بعدم التأبير قائلا لهم: لو لم تفعلوا لصلحت, فامتثلوا رأيه, وتركوا تأبير نخلهم في تلك السنة, فتلف الثمر, فلما علم بذلك قال لهم: أنتم أعلم بشئون دنياكم. وقد حمل البعض هذه العبارة الصادرة من رسول الله صلي الله عليه وسلم ما لا تحتمل, واعتبرها دعوة إلي ترك الحرية للناس في اختيار النظم والتشريعات التي تتحقق بها مصالح مجتمعاتهم الحياتية, سواء في المجالات الاجتماعية أو الاقتصادية أو الفكرية أو نحوها, من كل ما يتعلق بشئون الحياة الدنيا, سواء كانت تلك النظم تتفق مع شرع الله تعالي أو تخالفه, وسواء كانت مستمدة من الشرائع السماوية أو من غيرها, أو هي خليط من ذلك كله, بحسب ما يري أهل كل مجتمع أنه يحقق مصالحهم الدنيوية. وهذا الفهم غير المستقيم للحديث السابق, لا يساعد عليه منطوق الحديث ولا مفهومه, وحمل معناه علي المعني السابق هو من الخطأ البين, الذي لا يقره أهل الاختصاص. فقد صدر هذا القول أنتم أعلم بشئون دنياكم, من رسول الله صلي الله عليه وسلم في معرض الكلام عن تأبير النخل, وهو أمر يخضع للتجربة والخبرة في مجال الزراعة, ولم يكن لرسول الله صلي الله عليه وسلم خبرة أو تجربة بذلك من قبل, وإنما أشار علي أهل المدينة بما يظنه أصلح للنخل من وجهة نظره كبشر, ولم يأمرهم بتنفيذ أمر صادر عنه, وإنما حضهم علي ما رآه تحضيضا لا إلزام فيه, حيث قال لهم: لو لم تفعلوا لصلحت, فهو مجرد ظن منه صلي الله عليه وسلم أن ترك التأبير فيه صلاح النخل, والظن يخطيء ويصيب, فهو من حيث ما أشار به عليهم بشر, يجوز عليه ما يجوز علي البشر, من الإصابة والخطأ في مثل هذه الأمور التي تخضع للتجربة والخبرة في مجالها, ولهذا روي عنه صلي الله عليه وسلم أنه بين لأهل المدينة, بعد ما تبين له تلف الثمار, أن ما أشار به عليهم مجرد ظن منه, وليس وحيا أوحي به إليه, إذ قال في بعض روايات الحديث: إنما هو ظن, فإن كان( أي الظن) يغني شيئا فاصنعوه, فإنما أنا بشر مثلكم, وإن كان الظن يخطئ ويصيب, ولكن ما قلت عن الله عز وجل فلن أكذب علي الله, وفي رواية أخري: إنما أنا بشر, فإذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به, وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر, وفي رواية ثالثة: إنما أنا بشر مثلكم, وإن الظن يخطيء ويصيب, ولكن ما قلت لكم: قال الله, فلن أكذب علي الله. وهذا يدل علي أن رسول الله صلي الله عليه وسلم لم يدخل في روع أهل المدينة, حينما أشار عليهم بعدم تأبير النخل, أن ذلك وحي أوحي به إليه, حتي يكون قوله بعد ذلك: أنتم أعلم بشئون دنياكم, من قبيل الوحي المصرح بترك الناس أحرارا, في اختيار ما يشاءون من تشريعات ونظم, تحكم مجتمعاتهم في شتي مناحي الحياة, وإنما هو قول قاله من عند نفسه, ولهذا استدرك بعد هذه العبارة, فقال: ولكن ما قلت عن الله عز وجل فلن أكذب علي الله, الدال علي بقاء أمر التشريع الذي يحكم شتي مجالات حياة البشر بيد الشارع سبحانه.