بيته خلوة للتأمل فيما تساقط من العمر.. لا شأن له بالزمن, فهو يجسد حياة ما بعد الحياة.. فيه تنفصل عن الوجود وتدخل عالما جديدا لواحد من أهم أعمدة الثقافة الفرنسية, هو بيت الشاعر والروائي والكاتب المسرحي والمخرج السينمائي والنحات والرسام جان كوكتو.. الحاضر في كل شيء.. الغائب عن كل شيء. هنا, في بلدة اميلي لافوريه علي بعد50 كيلومترا جنوب باريس, يطل عليك بأبوابه الرومانية الأنيقة وأبراجه الوردية الشامخة وكأنه قلعة قديمة.. تحيط به حديقة واسعة مزروعة بالأشجار التي تمتد الي حدود غابة زجارين. لفت هذا البيت انتباه جان كوكتو- وهو أورفيس الإغريق المعاصر- مما جعله يختاره سكنا له في القرن السابع عشر. ما ان تعبر باب الحديقة, تدرك أن الأمس مضي والغد لن يأتي.. قصص بعيدة منقوشة علي حجارة البيت.. منزل كان صاحبه مؤمنا بالقدر, لا يهاب الموت, معتبرا الحياة تيها وضلال أكثر من الموت.. همساته في الأذن تتردد: لا تكابدوا كل هذا العناء, فالسماء لنا جميعا.. اللوحة الخشبية التي علقها بالأمس علي باب الحديقة, تحمل اليوم اسمه بعد رحيله عن الدنيا.. فتتذكر معها كلماته: يوم ولدت بدأ موتي مسيرته, وهو يسير نحوي متمهلا.. كوكتو- وهو أيضا أوديب, وانتيجون, وهورتبيز, وتريستان- في تحد صريح للموت, أوصي بوضع عبارة مازلت معكم علي شاهد القبر.. كان الموت صنو الحب بالنسبة له, فاختار أن يعيش في الأبدية وينكر ذاته. ما أن ترهف السمع, يخال اليك أنك تسمع أصوات الأرواح الهائمة التي كانت تتردد علي البيت في الماضي والتي كانت تقاسم كوكتو عالمه الابداعي. فقد استقبل هذا المكان المطربة الشهيرة اديث بياف, ومصمم الأزياء العالمي ايف سان لوران, والرسامين بيكاسو وبوفيه, وغيرهم من المبدعين الذين أثروا الحياة الباريسية منذ أكثر من خمسة عقود مضت. من المضحك أن شاعرنا كان يشيع دائما وسط أصدقائه بأن البيت هو الذي اختارني, وليس العكس.. بل انه هو الذي يحبني وينتظرني كل ليلة!! مستثمرا موهبته الفنية وفكره النابغ الذي تجلي في تصميم ديكورات مسرحياته, تعامل كوكتو مع هذا المكان باعتباره عملا فنيا خاصا به. حجرة المكتب كان مكتبه في الغرفة المجاورة لحجرة النوم.. مكتبا بسيطا بمفروشاته, لكنه غني بقيمته ومحتوياته من كتب ووثائق. هذه الغرفة كانت محراب كوكتو الذي يعكف داخله ويمارس فيه كل أنواع الكتابة: شعر, مسرح, سينما.. تلال من الكتب.. الي جوارها بيبة( غليون التدخين) الخاص بالأفيون, قارورة كوكايين, ومقتنيات مشابهة لا تخفي تعاطف الكاتب العالمي تجاه تعاطي المخدرات حيث كان يبحث فيها عن سعادته المفقودة وينشد بها الفرار من الوحدة. لا شك أن حياة كوكتو كانت مليئة بالتراجيديا التي انعكست علي شخصيته وأعماله.. لقد كان انتحار والده- وهو في التاسعة- الواقعة السوداء في عمره التي صبغت أيامه التالية بأسود الجنازات وأحمر الدم الذي رآه بأم عينه. ولم تنج عناوين كتبه بعد ذلك من هذين اللونين القدريين: زدم الشاعرالنسر ذو الرأسين صرخة مكتوبة الأولاد الرهيبون فرسان الطاولة المستديرة وصية أورفيكوس رقصة سوفوكليس الآلة الشيطانية.. كوكتو الذي عرف بحبه للشرق, أصدر عام1949 كتاب معليش حيث سجل علي صفحاته يومياته وأفكاره وملاحظاته خلال الشهور الثلاثة التي تجول فيها مع فرقته المسرحية في العديد من دول البحر المتوسط, لا سيما مصر وتركيا واليونان. مبحرا في زمن لا يعود.. في حلم بعيد.. رسم تأملاته عن القاهرة في لوحة غائبة يغمر تفاصيلها النقوش الفرعونية والحروف الهيروغليفية. بالنظرة الأولي المجردة للمكان, بدت العاصمة- في عينيه- مدينة شديدة الاهتمام بالموت. منذ أن تطأ قدمك أرضها, تدرك أن صناعة الموت فيها هي صناعة أساسية حيث أن الاهتمام بالقبور يهيمن علي حياة المصريين هيمنة شبه كاملة. اختفي شكل السماء للحظات.. وجرفه نهر النيل العظيم الي حفل مراثي راح يرسمه في مخيلته. كان ضيوفه- الي جانب البشر- يلهون علي ضفتي النهر من تماسيح, وذئاب, وعقارب وأفاع كانت جميعا كائنات لها مكانة كبيرة عند المصريين القدماء وارتبطت بالمومياءات والتحنيط ورائحة الموت. لكن هذا ليس كل شيء في ليل القاهرة!! فهناك في هذا البلد مكامن جمال رائعة. لم يغفل كوكتو مشهد القمر وهو يملأ الفراغ من حوله في منطقة الأهرامات بالجيزة.. ولم ينس سعادته الغامرة حين كان فوق هامة الجمل مختالا وكأنه سيد الرمال. كما أجري حوارا افتراضيا مع حارس الأهرامات أبو الهول.. خلص منه الي حقيقة هامة, مفادها: ان الحياة دائما ما تولد من الموت. كذلك قوة مصر تبعث من الفناء.