طفاية سجائر.. هذا كل ما تبقي فجأة وجدت نفسي وحدي.. كل من كان وما كان معي قد اختفي.. تلاشي فجأة خرج من الباب أو من النافذة.. لا أعرف فقد امتدت يد الظلام وسحبت المصابيح والمقاعد والمناضد.. وكل ما بقي هو طراطيش كلام في أذني.. وبقايا روائح وعطور وعرق وسجائر وزكام في أنفي. وفي الظلام تلمست طفاية سجائر كانت أمامي.. فيها بقايا سجائر طويلة أطفئت بسرعة.. وسجائر أطفئت علي مهل.. وسجائر سحقتها أصابع عصبية.. عليها أحمر شفاه.. عليها نار وليس لها دخان. هذه السجائر التي أمامي أعرف كيف لقيت مصرعها واحدة واحدة هذه السجائر الطويلة رأيتها وهي تموت في شبابها.. رأيت يدا غليظة تدفنها حية.. إنها سيجار صديقي الذي مالت عليه زوجته تهمس في أذنه.. وكلما تعالي الهمس زاد ضغط أصابعه علي هذه السجائر الطويلة.. لقد أنكر أنه يعرف من الذي طلبه في التليفون عدة مرات ولم يشأ أن يرد عليه أو عليها.. ولكن زوجته مصرة علي أنه يعرف. وأن التي طلبته هي خطيبته السابقة وأنها رأتها منذ أسبوعين قريبة من البيت وأنها سمعت وأنها وأنها.. وتحطمت السيجارة تحت أصابعه. خنقها.. وأدها.. كما كان يفعل العرب في الجاهلية.. كانوا يئدون البنات خوفا من الفضيحة. وهذه السيجارة تركها صاحبها تشتعل دون أن يقربها.. إنه يجد لذة في تعذيب الآخرين.. يراها ولا يلمسها.. يحرقها ولا يطفيء نارها. لقد أخرجها من جيبه بأناقة وأشعلها بعناية.. وتركها هناك بهدوء وراح يتفرج عليها بلذة.. إن صديقي هذا يحاول الإقلاع عن التدخين.. لذلك فهو يشتري السجائر ويشعلها ولا يدخنها.. وإنما يضعها علي حافة الطفاية.. علي حافة الهاوية.. إنه تعب من التدخين.. إنه كالرجل الذي تعب من اللهو.. تعب من عشرة النساء.. تعب.. فهو يتفرج بلذة المنتقم الشامت. وصديقي هذا يحاول أن ينتقم من مئات الألوف من السجائر التي لسعت شفتيه وأحرقت حلقه ومزقت صدره وصبغت بالصفار أصابعه.. وهذه السيجارة دخنها صاحبها بسرعة.. وأشعل منها سيجارة أخري.. أنها بزازة في فم طفل يرضع الهواء.. يموت إذا ابتعدت عن فمه.. وهذه السيجارة عصا يتوكأ عليها الكلام عندما يخرج من فم هذا الصديق.. إنه لا يتكلم إلا وهي في فمه.. إن كلامه دخان في الهواء.. أو دخان كلام في الهواء. حياتنا كلها سجائر.. متشابهة.. هذا يدخنها علي مهل.. وهذا بسرعة.. وهذا يتفرج عليها.. وهذا يحرقها وتحرقه.. تمزق صدره ويسحقها.. السجائر تنتهي في أفواهنا أو نحن الذين ننتهي عند أطراف السجائر.. نحن الذين ننقلها بأصابعنا إلي الطفاية.. أو هي التي تنقلنا. لا أعرف ماذا كنا نقول.. تكلمنا كثيرا.. ولكن ماذا قلنا؟ لا شيء.. ناقشنا كل مبدأ وكل مذهب في السياسة والاقتصاد والأدب والنقد.. ولم نتفق علي شيء.. كأننا نتكلم بلغات غير معروفة.. فكل واحد قال ولم يسمعه أحد.. كنا ننظر إلي شفتيه لنعرف إنه يتكلم.. فإذا أطال إطباق شفتيه عرفنا أن المدة المخصصة للكلام قد انتهت فيتكلم بعد ذلك الذي بجواره. كأننا كومبارس ننتظر أحد الأفلام.. كأننا ست شخصيات تبحث عن مؤلف.. كأننا ست عارضات للأزياء ولا تنقصنا إلا الدار التي نعمل فيها.. كأننا ست سجائر أشعلت وتركت لكي تخمد أنفاسها بنفسها. كل فكرة قيلت أخمدت في الحال.. كل فكرة اشتعلت ودخلت رأسي أنطفأت في الحال.. كل الأفكار أسمعها ولا أكاد أفكر فيها حتي أسمع لها صوتا واحدا: طش.. وهذا صوتها وهي تنطفيء في رأسي التي هي بحيرة راكدة أو طفاية سجائر مليئة بالماء. جلسنا وتكلمنا وأطفأنا سجائرنا.. وأنطفأت فينا أفكارنا.. وقام فأر السبتية بمهمة مدير المسرح فأنزل ستارا أسود وبدأنا نخبط ونتخبط.. تماما كأننا في مسرحية بدأت من آخرها فنزل الستار وسمعنا الدقات التقليدية, للمسرح.. ودخلنا في مسرحية عقيمة نسمع فيها ولا نري.. والذي نفهمه لا يقنعنا ولا يعنينا.. وكل محاولة للكلام أخمدت فورا.. وكل محاولة لاستئناف الكلام هي محاولة لإشعال عقب سيجارة مبللة.. ومددت يدي إلي طفاية السجائر كأنني طفاية أمسكت طفاية.. ومن أعقاب كل شيء لففت هذه السيجارة التي قرأتها!