أريد أن أحكي لكم اليوم عما حدث لي منذ يومين.. كنتُ قد دُعيتُ إلى أمسية شِعرية لأشارك فيها، من قِبل أستاذ جامعيّ وناقد أدبي لي معرفة بسيطة به.. وقد اتُفق على إقامة الأمسية بمقر حزب سياسي بالسيدة زينب، حيث يبعد مسكني بنحو ساعتين ونصف من العذاب.. لذا قمتُ ببدء الرحلة مبكرًا وأخذتُ "ترانزيت" ببيت أبي، ثم استعنتُ بالله في البقية وأكملتُ طريقي. وصلتُ في موعدي ودخلت المكان لأجد مقبرة من الأدخنة تتصاعد فلا تكاد ترى ما بالداخل للحظات.. معظم الجالسين ينفثون الدخان في شراهة واستمتاع واضحيْن. كنتُ مع صديقتين وتوقعت أن ينتهي الحفل المنغلق احترامًا لنا كفتيات، كنوع من الذوق العام، وعندما لم يحدث، استأذنتُ أحد الرجال المسنّين في أدب لعدم تحمّلي دخان السجائر هذا، وياللهول ! عاصفة من عواصف سيبيريا التي كانت تواجه رجل المستحيل تعصف بي لتخطيّ الحدود فيما يبدو، كان التأفف وتعكير المزاج واضحين على وجه الرجل وردوده شديدة السُمِّية من نوعية "لا معلش احنا قاعدين ف تكييف ومروحة أهه".. وإذا ب "خدوهم بالصوت" شديدة الصحة، حيث انكمشت مكاني لفترة أشعر بالخجل حتى من إبداء تعبي أو من خروج سعال هنا أو هناك. خرجت مع صديقاتي حتى تنتهي هذه الفقرة المسلّية وأنا أحاول بيني وبين نفسي أن ألتمس العذر للمدخن الذي بالتأكيد يصعب عليه أن يطفئ سيجارته العزيزة هكذا ! حسنًا، لأنتظر عشر دقائق حتى وأدخل. يخرج أستاذ الجامعة ال"معرفة" ليقول: "إيه الوسوسات دي كلها" ! باعتبار السرطانات وأمراض الرئة والوفيات، وحتى تأثر طفلي الجنين الجالس في جوفي.. محض (وسوسات) ! أدخل بعدها لأجد الحفل انتعش والسجائر بين أصابع الجميع تغمز لنا لتغيظنا ! أجلس مكاني مضطرةً، ما زلت أخجل من إبداء سخطي أو إظهار منديل أسد به أنفي المشتعل أو أربطه على دماغي المتفجر من الصداع (يقولون ان الصداع أول علامات السيجارة الأولى.. إشارة جيدة جدًا !!) يبدأ الدكتور العزيز في إلقاء مقدمة للندوة، ثم يبدأ زميل في إلقاء بعض القصائد، أكاد لا أسمع كلمة وأنا أبتسم طوال الوقت محرجة من إبداء ضيقي وانقطاع أنفاسي. كل عدة دقائق أخرج متحججة بهاتفي الذي لا يرن ألتقط بعض الأنفاس وأعود.. أخيرًا، يغمرني شعور باللوم على تخاذلي سوى مرة واحدة. أستمر في وقوفي بالخارج وأسير لصيقتيّ لتخرجا لالتقاط أنفاسهما هما الأخرتان. وحين يأتي دوري في إلقاء قصيدة لي، أكون قد قررت أن أطالب بحقي أو الرحيل. أتجه إلى مدير الندوة "المعرفة"، أتوقع منه شيئًا من تطييب الخاطر إن لم يكن كلمة حاسمة تمن حني بعض الهواء حتى ك "بريك" ثم ليستعيدوا ما يرغبون من الدخان بعد رحيلي. أقول بهدوء أنني لا أحتمل المزيد من الدخان، فإن لم يكن ذلك ممكنًا فأنا أعتذر عن إزعاجهم وسأرحل في هدوء، يكاد يشير لي أن أخفض صوتي لكي لا أزعج الرجال من حوله ممن يهتم هو لسخطهم فيما يبدو، الجميع ينظر بلا مبالاة، غير أن أنفة عدم الانهزام الخيالية تفرض سيطرتها على الأستاذ المحترم: "مقدرش أجبر حد يطفي سيجارته ثم دي حرية شخصية"، وإذن فحريتي الشخصية لا تهم أحدًا هنا حتى في ظل هذا التجمع السياسي المزعوم.. وحريتي تلك تلزمني أن أتحرك فورًا. أرحل. تلاحقني كلماتهم "هي عايزة ندوة مشفّيّة؟" "المفروض الواحد يبقى عامل حسابه ان ممكن يبقى في سجاير" ! * إذن فها هي القاعدة وليس العكس.. أن الطبيعي أن المعظم لا يدخنون وبالتالي لا يحق لأحد إلزامهم بتنفس السم ما لم يرغبوا فيه ! أنا لم أعترض أبدًا على أن يدخن أحدهم، حتى أن أخي يدخن! فلتدخن، بشرط ألا تنفث دخانك في وجهي يا سيدي!! يا عزيزي أنت حر ما لم تضر. في أوربا والدول المتقدمة تكنولوجيًا والمتأخرة جدًا أخلاقيًا، هناك ذوق عام وقوانين حادة تمنع التدخين في الأماكن المغلقة، يعني لك أن تفعل ما تشاء بنفسك، لا بنفسي أنا ! قررتُ ألا أتنازل عن حقي أبدًا، لا في مكان عام ولا خاص. وأن أتساءل قبل الذهاب لأي مكان أُدعى إليه إن كان المكان سيرغمني على تذوق الدخان مرة أخرى وأنا غير راغبة في ذلك. سأطالب بحقي ولن أخجل حين أكون في سيارة تاكسي مع ابنتي وحدنا، أو أكون السيدة الوحيدة في ميكروباص يكتظ بالرجال الساكتين لأنهم فقط تعوّدوا ذلك وإن لم يستمتعوا بدخان السيجارة، بل الأغلب أنهم سيحاولون إسكاتي أنا بحجة "افتحي الشباك شوية". لن أخاف من طلب حقي، ولن أغضب إن لم يشاركني أحد دعوتي ولن أشعر بالوحدة. سأحتفظ بروح المبادأة وإن لم تظهر النتيجة. إن أهم ما يجب أن يتغير بعد الثورة، هو قدرة كل منّا على التجرؤ لطلب حقه والتظاهر لأجله. صديقي المدخّن تناول حقه كاملًا وأنا سأفعل بالمثل.