مصريون ولكنهم يعشقون النيل فهو حضن دافئ حتي في الشتاء أجسامهم توحدت مع ماء النيل حتي حملوا صفاته فأصبحوا جزءا منه وكأن الأرض كوكب آخر لا يستطيعون العيش عليه فكوكبهم هو النيل هو الحياة أحن بكثير من صلابة الأرض التي أصبحت قلوب من يعيشون عليها مثلها تماما فالرضا هو شعارهم افترشوا الماء والتحفوا السماء وسكن النوم الجفون وكانت أمنيتهم أن يعشش عليها الأمان علي مصر. بينما كنت اجلس في إحدي المطاعم العائمة لفت نظري منظر قارب صغير يقف صاحبه بشبكته ليصطاد بينما تجدف زوجته فهي ذراعه الأمين الذي يجدف له في نهر الحياة ليذهبا سويا حيث الرزق ولكني شهدت داخل المركب الصغير أواني للطهي وأدوات مطبخ لزوم الطهي وأنبوبة غاز صغيرة وملابس وراديو حتي الطيور فقد شاهدت الأوزة وهي تقفز من فوق هذا المركب لتستحم في النيل.. إنها حياة كاملة فوق مركب ربما يكفي لثلاثة أفراد للنوم بشكل متوازي وعندما اقترب هذا المركب علي الشاطئ بجوار حي الزمالك كان هناك قارب آخر ينتظرهم واكتشفت أنه قارب أبناء هذا الصياد الصغير الذي يوجد داخله خمس بنات وولدين كانت الفتاة تغسل الأواني وكأنهم قطعة من الفضة وهي مستمتعة بالعمل وعندما شاهدت والديها قفزت لتلتقط منهما المجداف وتعلق الهلب لترسي مركبهما بجانب مركب اخواتها عدت إلي المنزل ولكن لم تختف من عيني صورة هذا المشهد للقارب الصغير الذي يأخذ مكانه في النيل بجانب هذا المطعم وظلت هذه الصورة لهذه السيدة التي تجدف وعلي وجهها تجاعيد الزمن مع ابتسامة الرضا التي تطل علي وجهها مع ذراعيها التي تتحمل قوة المجداف ضد التيارتسكن خيالي وفي اليوم التالي ذهبت الي نفس المكان ونزلت إلي شاطئ النيل الذي ترسو فيه المركبتين ووجدتني أنادي علي هذه السيدة ولكنها كانت تنظر إلي ولا تجيب واستمريت في النداء حتي استجابت وطلبت منها أن تقترب بالمركب ولكنها قالت نحن لا نتحدث أو نتصور مع أحد ولكني وعدتها بأنني سوف أطرح عليها بعض الأسئلة فقط بدون تصوير.. فاستجابت وقالت أنا اسمي أم محمد وعندي خمس بنات وولدين وعندما سألتها أين منزلك؟؟ أشارت إلي المركب الصغير وقالت هذا منزلي تزوجت هنا.. وعشت هنا.. ولكني سألتها وأنجبت هنا أيضا؟؟؟ قالت: أنا ولدت في مستشفي فاروق أي مستشفي الجلاء للولادة وبعد الولادة عدت هنا للمركب وعدت لأسألها كيف يعيش طفل حديث الولادة في مركب في وسط النيل ألا يمرض ؟!! قالت: كل أولادي متربيين هنا في الميه ونحن ننصب خيمة فوق المركب في الشتاء لنشعر بالدفء سألتها: لماذا وافقتي من البداية أن تعيشي هنا في النيل؟ قالت: لأني ولدت وتربيت هنا في الميه والدي كان صياد وتزوجت أنا أيضا صياد مركب ومعه مراكب فسحة ولابد أن أساعد زوجي مثلما كانت أمي تساعد والدي في الصيد... هذا ورث نورثه عن أهالينا اندهشت عندما سألت أم محمد ماذا لو جاءت إليك الحكومة وقدمت لك ولأولادك شقة وبها عفش هل تخرجي حينها من المية؟ كانت الإجابة مفاجأة بالنسبة لي قالت أم محمد: نحن لانعرف الحياة بين أربع حيطان نتخنق! كررت عليها نفس السؤال إذا منحتك الحكومة راتب شهري هل توافقي؟ أجابت بفطرتها وخبرتها بالحياة في نفس الوقت: لا يا أستاذة الحياة علي الأرض مكلفة مهما الحكومة أعطتني لكن في البحر سمكة كبيرة نأكل كلنا ونشبع وأمام هذه الإجابة لم أستطيع إلا أن أحسد هذه المرأة البسيطة علي ما منحها الله من رضي وقناعة نادرا ما نراها في هذا الزمن سألت أم محمد: هل لديك موبايل فوجئت بالإجابة: أن لدي زوجها موبايل ولكن تلاشت دهشتي عندما علمت أنه ليس للرفاهية ولكن لأن الزبائن بيتصلوا بزوجي لحجز السمك وعاودت طرح سؤالي علي أم محمد ما هي مشاكلك؟ كانت مشاكلهم تتركز في فرض المسطحات المائية محاضر رغم أن المركب لها بطاقة ضريبية ورخصة بالإضافة إلي الكارنيهات الخاصة بالصيد وإحنا ماشيين كده علي الله... واسترسل الحديث بيني وبين أم محمد لأعرف رأيها في الحكومة كان ردها ربنا يصلح حالها ويجي رئيس كويس بس أنا زعلانة علشان الشباب كان حسني ممشي الدولة أحسن من كده واللي نعرفه أحسن من اللي منعرفوش هذا علي حد ثقافة أم محمد وتستكمل حديثها عشت طوال عمري في النيل من غير خوف أما الآن أصبحت أخاف علي بناتي. أما سهام فهي الأبنة الكبري لأم محمد لم تحصل علي أي قدر من التعليم ولا تندم أو تشعر بنقص لعدم تعلمها كما لو كان البحر هو معلمها في هذه الحياة أمنيتها أن تكون ممثلة فهي تشاهد تليفزيون بالبطارية في مركب في النيل يجتمع فيها كل المراكبية ليشاهدوا ما يحدث في مصر وكأنهم في كوكب آخر يتفاعلون بمشاعرهم فقط وخاصة في كل ما له علاقة بمياه النيل الذين يعيشون فيه فسهام ستكمل مسيرة والدتها تتزوج أيضا صياد وسيعيشان في قارب هو سكنهم وعشهم الذي سيولد به أولادهم ولكن لم تسلم مياه النيل من قانون الحظر.. تقول أم محمد: الحظر أصابنا بالضرر لأن الناس كانوا بيركبوا مراكب الفسحة لأوقات متأخرة أصبحوا الآن لا يتجاوزون الساعة الحادية عشر ولكن لابد أن نتحمل علشان مصر, ودفعني فضولي لأن أعرف أنواع السمك التي تصطاده أم محمد وزوجها وأي المواسم يكون أفضل؟ أجابت: نصطاد سمك بلطي وأبو ريالة. لم تكن أمنيات هذه السيدة البسيطة الذي رسم الزمن علي وجهها لوحة لتضاريس شقاء السنين إلا أن تكون مصر بخير فهي أكثر وطنية من كثيرين أنعم الله عليهم بالعلم والثقافة وعاشوا علي الأرض وسلب منهم نعمة البصيرة والانتماء وبين الشاطئ الأيمن للنيل والشاطئ الأيسر تختلف الحياة فهم أناس يعيشون مع الماء والأرض ويتفاعلون مع الأحداث ولكن بشكل أخر وهم الذين يفترشون المقاهي علي شاطئ النيل بجوار ميدان عبد المنعم رياض الذي شهد أهم الأحداث منذ ثورة25 يناير حتي الآن فهي صورة صارخة لأسوء صور البلطجة سيان داخل النيل أو علي ضفته من فرض إتاوات وبلطجة علي رواد الكورنيش وهكذا أصبح شاطئ النيل سكن من لا سكن له دون أن نعلم من هم ؟ ومن أين أتوا؟ ولكنهم في النهاية مصريون يعيشون في الماء.. يعيشون بين والماء والسماء ولكن من عاش في النيل أخذ صفاته وهي العطاء كما قال عمرو بن العاص لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب. أما مصر فتتحول بعد الفيضان من لؤلؤة بيضاء إلي عنبرة سوداء ثم زمردة خضراء فديباجة قشاء فتبارك الله الخالق لما يشاء