دفعت الأمة المصرية ثمنا فادحا بسبب إخفاقات النظام قبل ثورة25 يناير, ثم فقدان الاتجاه بعدها جراء غياب قيادة للثورة وخديعة الاتجار بالدين وإملاء الإدارة الأمريكية وإذعان السلطة الانتقالية. ولا تملك مصر, أمة ودولة, أن تفقد الاتجاه مجددا في تنفيذ خريطة طريق المستقبل بعد ثورة30 يونيو. وبدءا من إعادة كتابة الدستور ينبغي التقدم; بتحديد الأسئلة الملحة وطرح الاجابات الصحيحة; تجنبا لانتكاسات عانت الأمة آلامها المبرحة في ماضيها القريب وتعانيها في حاضرها المعاش. وأجتهد فألخص أهم الأسئلة المطروحة في: ماذا تعني الثورة؟ وما هي بوصلة الدستور؟ وأي نظام حكم؟ وأي نظام اقتصادي اجتماعي؟ وما هي حدود الحرية؟ وما هي هوية مصر؟ وأزعم, أولا: أن الثورة تعني أن الشعب لن يقبل, والحكم لن يستطيع, إدارة الدولة بالأساليب التي فجرت الثورة; وأن الشعب لن يقبل, والحكم لن يستطيع, تكريس أوضاع القهر والظلم والفقر والذل والتمييز والإقصاء, التي ولدت الثورة, وفجرتها مجددا. ويترتب علي استيعاب معني الثورة أن تكون بوصلة التقدم نحو المستقبل هي تغيير النظام وليس ترميمه, وأن تحقق تطلعات الأمة كما حددتها شعارات حلقتي الثورة المصرية: العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية والوحدة الوطنية والاستقلال الوطني. ويكون هذا بانتخاب رئيس وبرلمان يتبنيان سياسات تتسم بالمبدئية; فلا تعرف الالتفاف علي تطلعات الأمة, وتتحلي بالروح العملية; فتحدد أولويات وموارد تنفيذ برامج التقدم من الواقع الي الممكن ثم المنشود. وأقترح, ثانيا: أن تكون بوصلة تعديل الدستور هي بناء دولة المواطنة, باعتبارها عنوان انتصار الثورة الديمقراطية الوطنية. أقصد أن تكون مصر لكل المصريين, الذين يحملون الجنسية المصرية ويرفعون راية الوطنية المصرية, وأن تصبح مصر دولة ذات سيادة ومتقدمة ومستقلة متحررة من الانكشاف والتخلف والتبعية, وأن يوضع ويفعل دستور يبني مؤسسات دولة القانون الديمقراطية, ويحمي جميع حقوق المواطنة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية; بغير تمييز أو تهميش. وأزعم أنه بمقدور مصر, أم الدنيا, تقديم هذا المثال الملهم للعالم بأسره; فتعود عودا حميدا لدورها في صنع التاريخ, ليس إدعاء بأمة ذات رسالة; وإنما إدراكا لقدر أعرق الأمم; التي يفتح كتاب التاريخ الإنساني فتجدها في مطلعه! وأري, ثالثا: أن مصر لم تكن بحاجة قدر حاجتها الآن الي رئيس يتمتع بسلطات قوية; تمكنه من اتخاذ قرارات مصيرية وإجراءات جذرية تمليها مقتضيات بناء نظام جديد وتحديات حماية الأمن القومي وتعزيز السيادة الوطنية وتصفية جماعات الإرهاب وتعزيز الأمن العام. وثمة مخاوف مشروعة من إعادة إنتاج الطغيان; الذي أهدر جوهر الديمقراطية بركود التمديد ومؤامرة التوريث, ثم هدد كيان الدولة ذاتها بتمكين جماعة الإخوان وحكم مكتب إرشادها. وقد يكون الخيار هو تأسيس نظام شبه رئاسي, ينهي هيمنة السلطة التنفيذية علي السلطتين التشريعية والقضائية; ويحرم الرئيس من حق حل البرلمان مع احتفاظه بحق تشكيل الحكومة, ويمنح البرلمان حق حجب الثقة عن الحكومة وليس عن رئيس الجمهورية. وأدرك, رابعا: أنه ليس ثمة وصفة جاهزة لنظام اقتصادي اجتماعي, تصلح لكل زمان ومكان. لكنه ينبغي التعلم الإيجابي من دروس سقوط النظم التي انطلقت من وصفة مذهبية جاهزة وجامدة; سواء اقتصاد الأوامر الشيوعي, الذي سقط بانهيار الاشتراكية السوفييتية, أو اقتصاد السوق الحرة, الذي تداعي بانفجار الأزمة الأمريكية; حيث لم تجلب سيطرة الأيديولوجيين سوي الكوارث!! وقد تأكدت نظريا وتاريخيا حقيقة أن كفاءة تخصيص الموارد وعدالة توزيع الدخل وضمان تكافؤ الفرص هي أسس شرعية النظام, وأنه لا بد من ضبط إخفاقات السوق بالجمع بين آليات السوق والمبادرة الفردية وأدوار الدولة والقطاع العام, والتحرير والضبط, وحفز المشروع الخاص وضمان ربحية المجتمع, والانفتاح الخارجي والسيادة الوطنية.. إلخ. وأسجل, خامسا, فيما يتعلق بحدود الحرية, أن قضاء الدستورية والنقض قد أوضح بجلاء أن وظيفة التشريع هي تنظيم ممارسة الحريات الدستورية; وإلا تحول من أداة لضبط السلوك في المجتمع عن طريق قاعدة واضحة تحظي باحترام الجميع الي أداة تستخدمها السلطة للتنكيل بمعارضيها. ويتعين عدم الغلو في العقوبة بما يجور علي حريات وحقوق الافراد, وأن تكون الأفعال التي تؤثمها القوانين محددة بصورة قاطعة, وإذا أريد لحرية التعبير أن تتنفس فإن قدرا من التجاوز يتعين التسامح فيه. وكما أوضح الأستاذ هيكل, وبحق, فان الديمقراطية تعني أن يعرف المواطن أكبر قدر من الحقيقة, ومن هنا ضرورة إصدار قانون لحرية وتداول المعلومات; يتماشي مع مبدأ أقصي كشف لها, وتتقيد الاستثناءات فيه بهدف مشروع ينص عليه القانون; وأن يهدد الكشف بإحداث ضرر كبير بذلك الهدف; وأن يكون ضرر الكشف أكبر من المصلحة العامة في الحصول عليها. وأدعو, أخيرا, ومجددا لأن يصدر الدستور باسم الأمة المصرية, لأنها عنوان الهوية والولاء والانتماء, حين يتعلق الأمر بوضع دستور يحدد اختصاصات سلطات الدولة المصرية, ويحمي حقوق وحريات المواطنين المصريين, ولأن مسألة الهوية تتعلق بأمة محددة, تعيش في وطن محدد, يدينون له دون غيره بالولاء والانتماء. وإذا كانت هناك أمة في العالم محددة الهوية دون التباس فانها الأمة المصرية; أعرق الأمم, التي ازدادت غني بفضل تراكم الحضارات, التي أبدعتها أو أثرتها, وصارت عربية اللسان مع الفتح العربي الإسلامي, وازدادت انفتاحا بفضل المكان, الذي عظم مكانة وطنهم بتعدد أبعاده, وإن جعله معرضا للتهديدات. والمصريون المسلمون, حين يضعون دستورا ينظم عيشهم المشترك مع المصريين المسيحيين, ينطلقون من إسقاط ثورتهم لمشروع دولة الفقهاء والخلافة, الذي لا يري المصريين سوي رعايا, ولا يري مصر سوي ولاية, ويهدر قيم الوطن والوطنية, وينطلق من فرية أن فخر المصريين بالانتساب الي أمتهم المصرية وإعلاءهم لرايتها الوطنية يهدد العقيدة الإسلامية; في متاجرة وشطط وشعوذة وإرهاب باسم الاسلام. لمزيد من مقالات د. طه عبد العليم