خرج المؤرخ من صومعته التقليدية, ولن يعود اليها. فقد أصبح نجما ساطعا من نجوم المجتمع, ويبدو حليقا وأنيقا وهو يتحاور في برامج التليفزيون, ويطرح وجهة نظره فيما جري في الزمن الماضي, ويستعرض رؤيته حول مايحدث في الحاضر, ويشير إلي آفاق المستقبل الآتي. ذلك أن الوقائع الكبري والمثيرة التي تسهم في تشكيل الحقيقة التاريخية لم تعد سرا يقبع في وثائق الأرشيف في قبو معتم, وانما أضحت وقائع يمكنك أن تشاهدها فور حدوثها.. منذ انبلاج عصر تكنولوجيا المعلومات, والسماء المفتوحة لعالم الفضائيات. وهذا مافطن اليه الناس في منطقة الشرق الأوسط عندما اندلعت حرب الخليج وتحرير الكويت من الغزو العراقي ابان حكم صدام حسين, في مستهل عقد التسعينيات من القرن العشرين. ففي ذاك الحين, بهرت محطة التليفزيون الاخبارية الأمريكية سي.ان.ان, الجماهير في العالم العربي, عندما كانوا يشاهدون علي شاشتها وقائع تلك الحرب ومعاركها أولا بأول. وانطلاقا من تجليات ثورة تكنولوجيا المعلومات, صك بعض المؤرخين والباحثين مصطلحا جديدا هو التاريخ الفوري. ولعل المؤرخ والكاتب البريطاني المرموق تيموثي جارتن كان أول من بادر بابراز هذا المصطلح عندما أصدر كتابا بعنوان تاريخ الزمن الحاضر. وتناول فيه بالرصد والتحليل الثورات الديمقراطية التي اجتاحت أوروبا الشرقية عام9891 ضد النظم الشمولية وهيمنة الاتحاد السوفيتي. واللافت للانتباه أن تيموني جارتن لم يتابع تطورات الثورات الديمقراطية من مكتبه في العاصمة البريطانية لندن, وانما ذهب الي مسرح الأحداث الساخنة ليرقبها عن كثب. وكان يلتقي مع ابطالها ويجري حوارات معهم, ولم يعد المؤرخ المعاصر, ذلك الرجل التقليدي الذي كان يعتصم في صومعته أو غرفة مكتبه, وينكب علي دراسة الوثائق التاريخية المتاحة بحثا عن الحقيقة. وانما صار يسعي في الطرقات التي تتفجر فيها أحداث التاريخ. فهو يضطلع بدور الصحفي والكاتب, الي جانب قيامه بمهمته الجليلة تدوين التاريخ. {{{ ومن أبرز الشواهد علي الدور المهم للمؤرخ المعاصر أن المؤرخ البريطاني الشهير نيل فيرجسون الاستاذ بجامعة هارفارد قد استعان بمشورته السياسة جون ماكين المرشح عن الحزب الجمهوري للرئاسة الأمريكية. غير أن فيرجسون تراجع عن تأييده لماكين, واتجه الي تأييد المرشح الديمقراطي باراك أوباما الذي فاز بالرئاسة. ومن الجدير بالذكر في هذا السياق أن نيل فيرجسون حذر في مقال صحفي نشره عام6002 من احتمالات أزمة انهيار النظام المالي العالمي. وصدقت توقعاته عندما ضرب زلزال هذا الانهيار الاقتصاد العالمي في سبتمبر.8002 والمعني أن المؤرخ المعاصر صارت رؤيته التاريخية شاملة وجامعة.. وتتعانق بالدراسة والتحليل مع القضايا الحيوية التي تؤثر في المجتمع. وليس أدل علي ذلك من أن نيل فيرجسون فجر قضية تدريس التاريخ في بريطانيا. وأشار في محاضرة عامة القاها في ربيع عام0102 الي أوجه القصور في المناهج التاريخية. وأوضح أن مناهج تدريس التاريخ تركز أساسا علي تاريخ الملك هنري الثامن, والزعيم الالماني النازي ادولف هتلر, الذي فجر الحرب العالمية الثانية, وزعيم حركة الحقوق المدنية الأمريكية مارتن لوثر كينج. وأضاف أن أولاده لم يتعلموا في المدارس أي شيء عن تاريخ المصلح الديني لوثر كينج(3841 6451). وكان مايكل جوف وزير التعليم البريطاني حاضرا في المحفل الثقافي الذي القي فيه فيرجسون محاضرته. وأدرك أهمية ملاحظات المؤرخ. وقرر تشكيل لجنة من كبار المؤرخين لاعادة النظر في منهج تدريس التاريخ. وكان من أبرزهم ديفيد كانادين, وديفيد ستاركي. وتشهد اللجنة الاكاديمية التي لايزال جدول أعمالها مفتوحا, ومناقشات المشاركين فيها مستمرة, سجالات تؤججها وجهات نظر متباينة. وقد لخص المؤرخ ديفيد كانادين, الذي أصدر مؤخرا كتابا بعنوان المنهج الصحيح في دراسة التاريخ, وجهات النظر هذه.. وأشار إلي أن فريقا يركز علي أهمية الحقائق التاريخية, دون الاهتمام بتحليلها وكشف أبعادها, في حين يركز فريق آخر علي ماسماه السرد الروائي للتاريخ علي نحو يبرز العظمة القومية. أما الفريق الثالث فينصب اهتمامه علي ضرورة التركيز علي تاريخ بريطانيا وثقافتها, دون الاهتمام بعلاقتها مع العالم. {{{ ووسط هذا التباين في رؤي المؤرخين, شن المؤرخ ريتشارد ايفانز هجوما حادا علي الحكومة واللجنة التي شكلتها. واتهم الحكومة الائتلافية التي يرأسها ديفيد كاميرون قطب حزب المحافظين البريطاني بالعمل علي تعزيز اتجاه تاريخ الشخصيات البريطانية الشهيرة. وأشار الي أن هذه المحاولة تتعمد تجاهل مساهمات الشخصيات الأخري في التراث البريطاني. وبادر نيل فيرجسون بانكار هذا التوجه, وتلك المحاولة. والمثير للدهشة أن شيخ المؤرخين البريطانيين الشهير وهو اريك هويسبوم انبري للدفاع عن فيرجسون ووصفه بانه مؤرخ جيد يتسم بالذكاء. ومبعث الدهشة, أن هويسبوم يقف فكريا في خندق اليسار الماركسي, بينما ينتمي فيرجسون الي الجناح اليميني في حزب المحافظين. وينفي فيرجسون مثل هذا الانتماء ويقول: انني ليبرالي علي نمط الليبراليين في القرن التاسع عشر. وأيا مايكن موقف فيرجسون, فقد أصبح من ألمع المؤرخين البريطانيين المعاصرين. واعتبرته مجلة تايم الأمريكية في عددها الصادر عام4002 واحدا من المائه شخصية الاكثر تأثيرا في العالم. ولم تدرج المجلة توني بلير رئيس وزراء بريطانيا أنذاك في تلك القائمة. وكان بلير قد تزعم حزب العمال الجديد. وحقق انتصارا تاريخيا ساحقا علي حزب المحافظين في انتخابات عام.9791 ان جدل التاريخ لايزال مستعرا بين المؤرخين المعاصرين, وهو جدل يستهدف, في نهاية المطاف, بلورة الأبعاد الجديدة للهوية البريطانية في القرن الحادي والعشرين. ويطيب لأهل بريطانيا أن يتذكروا, في غمار هذا الجدل, قولا مأثورا للروائي البريطاني الشهير جورج أورويل: ان من يتفهم ويستوعب تاريخ الزمن الماضي, يمكنه ان يتحكم في مسار المستقبل. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي