ليس في امكانك فهم الأصوليات الدينية من غير فهم فكر غاندي, بل ليس في امكانك فهم فكر غاندي من غير مواجهته بالأصوليات الدينية. ومعني هذه العبارة أن ثمة اشكالية كامنة في العلاقة بين غاندي والأصوليات الدينية. والسؤال إذن: ما هي هذه الاشكالية؟ أستعين في الجواب عن هذا السؤال بأبحاث ألقيت في مؤتمر عقد بنيودلهي بالهند في سبتمبر1995 من قبل مؤسسة غاندي للأبحاث و أكاديمية بروشار وذلك بمناسبة الاحتفال بمرور مائة وخمسة وعشرين عاما علي مولد غاندي, وكان عنوان المؤتمر غاندي ومستقبل البشرية. وقد جاء في ورقة العمل المرفقة بالدعوة أن غاندي كان قد تجاوز عصره, لأن عصره كان يتميز بالعنف أما هو فكان يدعو إلي المقاومة السلبية, أي اللاعنف, في مواجهة الظلم الاجتماعي والسياسي. ولهذا يقول زعيم افريقيا الجنوبية نلسون مانديلا عن غاندي ينبغي أن نتذكر علي الدوام أن فلسفة غاندي قد تكون مفتاحا لبقاء البشرية في القرن الواحد والعشرين. والسؤال إذن: لماذا يذكرنا مانديلا بمفهوم اللاعنف لدي غاندي؟ هل هو المضاد الحيوي للظلم الاجتماعي والسياسي؟ وأجيب بسؤال: ما هو هذا الظلم الذي يستلزم أن يكون اللاعنف هو المضاد الحيوي؟ إنه كامن في العلاقة العضوية بين اقتصاد السوق الحر والثورة العلمية والتكنولوجية الأمر الذي من شأنه أن يفضي إلي البطالة والاحساس بعدم الأمان والتوزيع الظالم للثروة وامتلاك الأسلحة النووية. وإذا كان ذلك كذلك فهل يمكن تفكيك هذه العلاقة العضوية؟ باضعاف سلطة الدولة والعودة إلي القرية, ولهذا قال غاندي: إنني لن أسمح بأن تنتج المدينة ما يمكن أن تنتجه القرية. لماذا؟ لأن انتاج القرية يشبع الحاجات الأساسية بينما انتاج المدينة يشبع الرغبات. وثمة فارق كيفي بين الحاجة والرغبة, إذ الرغبة تولد الشراهة بينما الحاجة تولد الاكتفاء, ومن هنا تكون الحضارة ملازمة للقرية دون المدينة. ولهذا قال غاندي في إحدي رسائله إلي نهرو: إذا كانت الهند هي وسيلة العالم إلي التحرر فان علينا الذهاب إلي القري وإلي الأكواخ ونقيم فيها بدلا من أن نقيم في القصور. لكن هنا ثمة سؤال هنا لابد أن يثار: إذا كانت الثورة العلمية والتكنولوجية من افراز المدينة وليست من افراز القرية فهل غاندي ضد هذه الثورة؟ جوابي بالايجاب وهو مشتق من بحث ألقاه الفيلسوف الهندي بولك راج أثان عنوانه غاندي وحضارة الآلة عندما قال: إن الاحتفال بغاندي هو احتفال برفض حضارة الآلة. ولا أدل علي ذلك من قول غاندي إن الحكومة البريطانية في الهند تشكل صراعا بين الحضارة الحديثة التي هي مملكة الشيطان والحضارة القديمة التي هي مملكة الله علي نحو ما جاء في بحث الفيلسوف الهندي باندي المعنون الحضارة الانسانية الغاندية في القرن الحادي والعشرين. ومعني ذلك أن ثمة تناقضا بين الحضارة الغربية الحديثة والحضارة الهندية القديمة.الأولي مادية تبشر بالعنف والثانية روحية وجوهرها القوة الالهية وتبشر باللاعنف. أظن أن إشكالية غاندي تقوم في قناعته بأن ثمة علاقة جوهرية بين الحضارة الغربية والاستعمار, بينما المسألة ليست كذلك. فالحضارة الغربية هي حضارة انسانية, لأنها قد اتخذت من العقل سلطانا لا يعلوه أي سلطان. ولا أدل علي ذلك من أنها استطاعت هزيمة أية سلطة حاكمة غير مستنيرة علي نحو ما حدث في العصر الوسيط حيث تحالفت سلطة حاكمة متخلفة مع نظام إقطاعي فبزغ عصر النهضة ومن بعده عصر التنوير وما تبعهما من ثورة علمية وتكنولوجية. ومن ثم يمكن القول بأن الاستعمار الغربي سمة عرضية في الحضارة الغربية. أما إقرار العلاقة الجوهرية بين الحضارة الغربية والاستعمار فمن شأنه أن يفضي إلي الثنائية التي توهمها غاندي بين مملكة الشيطان وهي الحضارة الغربية ومملكة الله التي هي الحضارة الهندية القديمة. وهي ثنائية تذكرني بثنائية سيد قطب بين مجتمع جاهلي ومجتمع اسلامي. ومن شأن هذه القسمة الثنائية أن تفرز أصولية دينية ترفض المجتمع المعاصر بما ينطوي عليه من انفجار معرفة وثورة كمبيوتر, وتري أن من حقها قتل كل من ينحاز إلي الحضارة الغربية, ومن ثم تصبح السلطة العليا للارهاب, ويصبح رجل الشارع محكوما بهذه السلطة. ولهذا لم يستطع غاندي أن يفلت من النتيجة المأساة عندما أطلق عليه ارهابي من ملته الهندوسية ثلاث رصاصات فخر علي الأرض بعد الرصاصة الثالثة وسقط ميتا في30 يناير.1948 وإذا أردت مزيدا من الفهم فانظر إلي ما يحدث الآن في سيناء فماذا تري؟ دماء تسيل برصاص الأصولية الاسلامية, ولا فرق بعد ذلك بين أصولية هندوسية وأصولية اسلامية. لمزيد من مقالات مراد وهبة