في ظني أن من يقوم بزيارة بلاد الإنجليز لأول مرة سوف تأخذه الدهشة مما يقابل به من أدب جم وأبتسامة عريضة وهذا التعبير الشائع الجميل كيف أستطيع أن أخدمك؟ كيف يمكنني مساعدتك؟ وسوف يسأل نفسه لماذا يقابل المرء هنا بهذا الترحاب بينما يقابل في بلده بعبارات ساخطة وتعبيرات مكتومة كيف أتمكن من مضايقتك والعكننة عليك؟! كيف أرفع من ضغطك؟! كيف أجعلك تسحب البسمة من وجهك؟! وذلك يتم في المحلات التجارية والمصالح الحكومية علي حد سواء! وعليك أن تبحث عن الجواب في عبارة جان جاك روسوJ.J.Rousseau(17781712) العميقة المغزي: عندي أن كل شيئ يرتد إلي السياسة! والسياسة هنا تعني التكوين السياسي للدولة. فالحكومة الإنجليزية هنا تبحث للمواطن عن سبل الراحة بحيث يتفرغ تماما لعمله. كنت أجلس في عيادة طبيبة وبجواري رجل إنجليزي طلبت مني الممرضة( ويسمونها بالسكرتيرة) مبلغ خمسين جنيها ولم تطلب منه شيئا, واستلمنا الوصفة الطبية وذهبنا إلي الصيدلية فأحضروا له كل ما في الوصفة الطبية من دواء فشكرهم وذهب دون أن يدفع مليما واحدا- تماما مثلما حدث عند الطبيب أما أنا فقد جاءني الدواء مع ثمنه وكان علي أن أدفع الثمن قبل أن أستلم الدواء! وفي اليوم التالي استيقظت مبكرا علي أصوات كركبة في المطبخ, وذهبت حيث مصدر الصوت لاستطلع الأمر فأعتذرت لي السيدة التي كنت أسكن بيتها فقد وقعت من يدها زجاجة ماء وأستدعي انتباهي طابور طويل من الزجاجات الفارغة تقوم بملئها واحدة بعد الأخري... فسألتها بحب استطلاع ظاهر:- - ماذا تفعلين..؟ قالت: إننا سوف نقوم برحلة إلي الجبل وقد نبهتنا حكومتنا ألا نشرب من ماء الجبل فهي غير صالحة للإستهلاك الآدمي وأن علينا أن نملأ زجاجات من الحنفية ونأخذها معنا..! ورأيتني أسأل نفسي بسرعة لو أن حكومتنا الموقرة فتح الله عليها وأرشدتنا ونحن ذاهبون في رحلة إلي جبل الجيوشي ألا نشرب من مياه الجبل وأن نأخذ معنا زجاجات المياه أكنا فعلنا ذلك أم فعلنا العكس؟! هناك يقين عند المواطن أن الحكومة لا تفعل شيئا لمصلحته علي الإطلاق..! كنت قد طلبت شراء مجموعة من الكتب عن فلسفة الصمت من إحدي مكتبات بيع الكتب الكبري, وقيدت الموظفة طلبي ورجتني أن أسأل عنها بعد أسبوع, وعندما حضرت في الموعد لم أجد الموظفة بل وجدت مكتبها شاغرا, فوقفت في الصالة الكبيرة متحيرا ومتلفتا بحثا عن الموظفة المطلوبة, وفي هذه الأثناء مرت بي موظفة كبيرة في السن قليلا وهي تحمل صفا كبيرا من الكتب فوقفت تسألني: كيف أستطيع أن أخدمك؟! كيف يمكن أن أساعدك؟! فنظرت إلي ما تحمله من كتب دون أن أجيب وفهمت المرأة أنني كما لو كنت أقول لها: أخدمي نفسك أولا وذهبت مسرعة إلي أقرب مكتب ووضعت حملها وجاءتني مسرعة لكي تلقي علي السؤال نفسه فقلت لها إنني طلبت مجموعة من الكتب وأتيت اليوم لأسأل هل وصل منها شيء ولكني لم أجد الموظفة التي كانت تجلس علي هذا المكتب, وأشرت إلي مكتبها!! فأخذت الإيصال وذهبت إلي مكتب السيدة الغائبة وقالت نعم وصلك خمسة كتب هل تريدها الآن: - إذا كان ذلك ممكنا؟! - وهل ستدفع ثمنها..؟ - نعم.. - هل أحضرها لك.. - أكون لك من الشاكرين.. وذهبت إلي حجرة مجاورة وأحصرت طردا يحتوي علي خمسة كتب, دفعت ثمنها وشكرتها وحملت الكتب وخرجت!! وعدت من جديد إلي كثرة الأسئلة: لماذا فعلت هذه السيدة ما فعلت, وكان يمكن أن تقول إن السيدة سوف تأتي بعد قليل, وعليك أنتظارها أولا تسألني أصلا عما أريد! المواطن في إنجلترا حرصت الدولة علي أن تجعله متفرغا لعمله فليس عليه أن يبحث عن العلاج ولا ثمن الدواء, ولا مشاكل الأطفال في المدارس ولا أسعار الملابس أو الغذاء أن عمله هو الألف والياء في حياته..! أما عندنا فهو يستطيع أن يمطرك بأحاديث نبوية جميلة يسروا ولا تعسروا بشروا ولا تنفروا.. إلخ لكنه لا يعمل بشيء منها لأنه هو نفسه ملئ بالمشاكل والهموم وعندما يستطيع حلها سوف يتفرغ لحل مشاكل المواطنين..! سوف أروي لكم سريعا بعضا من مشاكلي الخاصة وكيف قابلها وعقدها موظفو الدولة:- 1- قدمت استقالتي من عملي لأسباب خاصة حيث كنت أعمل في دولة عربية, وعندما عدت في فصل الصيف ذهبت إلي البنك لأستلم المعاش فأخبرني الموظف أنه لم يصل إلينا من الجامعة مليم واحد! فذهبت مسرعا إلي قسم المعاشات في الجامعة فأخبرني الموظف المختص أنهم لم يقوموا بتسوية المعاش لأنني لم أقدم طلبا بذلك! ودهشت وسألته: وهل عندما تم تعيني في هذه الوظيفة تقدمت لكم بطلب لصرف راتبي؟! قال هذا شيئ وذاك شيء, المعاش لابد من تقديم الطلب, ولماذا لم تطلب مني تقديم هذا الطلب؟! كل إنسان أدري بمصالحه! ووجدت أنه لا فائدة من النقاش فأخذت ورقة وتقدمت بالطلب وعدت إلي عملي; وعندما حضرت مرة أخري سألت عن المعاش فوجدت أنهم لم يصرفوا المدة التي لم أتقدم فيها بالطلب, ولما سألت الموظف فقال أن هذا هو النظام: المعاش يصرف من تاريخ تقديم الطلب وليس من تاريخ استحقاقه! هل هذا يعقل؟! أفرض أنني أستحق المعاش من يناير لكني تقدمت بالطلب في مايو- فيصرف في مايو, هذه سرقة للمواطن علانية أو قل إنها بلطجة من الحكومة! 2- خذ مثلا آخر: بنيت منزلا في منطقة المريوطية بالهرم منذ سنوات طويلة وربما كنت أول من بني في هذه المنطقة وعندما طلبت إدخال المياه إلي المنزل فرضوا علي14 ألف جنيه. وعندما أبديت دهشتي قالوا هذا لأنك أول من تدخل عنده المياه لكن من يأتون بعدك سوف تأخذ منهم الدولة تكاليف إدخال المياة وتعطيها لك, والآن أصبح الشارع مليئا بالعمارات الفخمة التي لا تقل عن أثني عشر دورا, وزارني موظف فذكرته بما أخذوه مني14 ألف جنية ووعودهم لي بإعطائي ما يدفعه الجيران للمياة فضحك الموظف ضحكة عالية وهو يقول: يا دكتور هو اللي بيروح للحكومة بيرجع؟ وأندهشت إذا كان هذا حقي فلماذا لا يرجع؟ وهل الحكومة تمارس النصب علي المواطنين- عندها تذكرت سلوك البلطجية!! 3- طبعت كتابا في المجلس الأعلي للثقافة عنوانه النساء في الفكر السياسي الغربي في المشروع القومي للترجمة برقم457 وبعد عدة سنوات قال لي صديق لقد رأيت كتابك النساء في الفكر السياسي الغربي مطبوعا في مكتبة الأسرة ولم تعطنا هداياك كعادتك, فقلت: لأنني لا أعرف شيئا مما تقول لم يقل لي أحد إنه سوف يطبع في مكتبة الأسرة ولم أوقع عقدا, ولم أتقاضي مليما واحدا, ولا نسخة واحدة علي سبيل الهدية أو حتي العلم..! وذهبت إلي الصديق الدكتور أحمد مجاهد أشكو هذا التصرف الغريب فأرسل في طلب الموظف المختص فوعده بفحص الموضوع وطلب منه الدكتور أحمد: أريد أن أعرف النتيجة الآن وغاب الموظف ثم عاد ليعلن أن ما قلته أنا صحيح وأن الموضوع شائك لأنهم أخذوا الكتاب من المجلس الأعلي, وسوف ينتهي من دراسته قريبا.. ومر عامان علي الأقل ولم يحدث شيئ حتي هذه اللحظة! ما رأيكم دام فضلكم في هذه البلطجة الحكومية؟ وحتي لا يظن القارئ أنني أكتب عن مسائل شخصية فإنني أذكر هذه القضايا العامة:- أ- في كل شهر يأتي مع إيصال النور مبلغا نظير جمع القمامة, وما أن يذهب محصل النور حتي يظهر جامع القمامة مطالبا بعشرة جنيهات شهريته.. فلم أخذت الدولة ما أخذت من جميع الناس ذلك ضرب من البلطجة ومن لا يدفع يقطع عنه النور وليخبط رأسه في الحائط!! ب- كل من يرش الشارع بالماء أو يغسل سيارته يجازي بمصادرة خراطيم الماء ودفع مبلغ ألف جنيه غرامة..؟! ومن لا يعجبه فعليه أن يخبط رأسه في الحائط!! ج- أعتدت أن أقرأ في الصفحة الأولي من صحفنا اليومية خبرا مثيرا جمع مائة ألف جنيه مخالفات مرور في أسبوع واحد من محافظة الجيزة! أو جمع كذا ألف مع خراطيم المياه... ويبدو أن جمع الأتاوات من السيارات عن طريق المخالفات المرورية العجيبة تلاشي مع الحكم الجديد حيث لم يعد هناك مرور أصلا!