ليست هذه هي المرة الأولي التي تسعي فيها دول العالم إلي إيجاد بديل تجاري عن قناة السويس, فقد سبق الحديث عن مشروعات مثل توسيع قناة بنما, ومشروع قناة البحر الميت, وكذلك مشروع إحياء طريق الحرير البري القديم, غير أن قناة السويس بقيت الطريق الأفضل والأجدي اقتصاديا, بفضل ما تتمتع به من مميزات جغرافية وأمنية, فضلا عن المشروعات المستمرة لتوسيعها وتطوير العمل فيها. وليست هذه هي المرة الأولي أيضا التي يثار فيها الحديث عن طرح فكرة الطريق القطبي الشمالي كبديل, ولو جزئيا, لحركة التجارة المتبادلة بين بعض الدول الآسيوية ودول شمال أوروبا, فالفكرة مطروحة منذ سنوات, وبدأ إحياؤها من جديد منذ بضعة شهور, ولكن الملاحظة التي يجب التوقف عندها هي أن التحركات والمفاوضات والأبحاث العلمية التي تجري هذه الأيام باتت أكثر وأسرع من أي وقت مضي من أجل البدء في تنفيذ مشروع القناة الملاحية القطبية الجديدة, حتي وإن كانت الفوارق الاقتصادية بين الملاحة فيها واستخدام قناة السويس ضئيلة نسبيا, مع الوضع في الاعتبار أن الأمر ليست له اعتبارات سياسية, ولا توجد فيه مؤامرات ولا تحالفات, بقدر ما هي وسيلة حديثة من نوعها للاستفادة من أحد التأثيرات السلبية للتغير المناخي علي القارة القطبية في توفير قناة ملاحية جديدة, فخطة إنشاء قناة ملاحية بين آسيا وأوروبا عبر القارة القطبية الجنوبية ليست سوي جزء ضئيل من مشروع عالمي أوسع نطاقا تعمل عليه عدة دول آسيوية وأوروبية حاليا يحمل عنوان' خطة تنمية القارة القطبية', ويشمل أيضا إلي جانب الأغراض الملاحية أفكارا ومشروعات أخري معظمها ذو طابع علمي. وتقوم خطة تنمية القارة القطبية علي فكرة أنه أصبحت هناك احتمالات كبيرة وفرص واسعة لتنمية الطاقة والموارد الطبيعية في القطب الشمالي بسبب الذوبان المتزايد للجليد في تلك المنطقة نتيجة لارتفاع درجة حرارة الأرض وتزايد تأثير ظاهرة التغير المناخي, والتي تعد القارة القطبية الشمالية أولي ضحاياها, ولكنها بموجب الخطة الجديدة ستكون أولي الجهات المستفيدة من وراء ظاهرة التغير المناخي. وبعد إجراء الأبحاث العلمية اللازمة حول القطب الشمالي, بدأت دول آسيوية عديدة تنضم إلي عضوية المجلس القطبي بهدف زيادة التعاون في مجال الأبحاث العلمية وتنمية الموارد مع دول شمال أوروبا لتطوير القطب الشمالي بما يحقق مصالح الجانبين. وبرغم من أن فكرة المسار الملاحي القطبي لم تكن أساسا من الاهتمامات الأولية للمجلس القطبي, فإن دخول دول آسيا علي الخط تدريجيا هو الذي ساعد علي ظهور المشروعات التجارية الجديدة التي تقوم علي أساس تحويل ظاهرة التغير المناخي إلي فرصة بدلا من أن تكون أزمة, بل إن دولا آسيوية بدأت بالفعل في وضع خططها الخاصة لتطوير وتنمية الموارد في القارة القطبية, إما بهدف الاستفادة من المسار الملاحي الجديد المقترح أو سعيا وراء استغلال الموارد الطبيعية في تلك المنطقة المنعزلة, في وقت تستورد فيه معظم دول آسيا الغنية مثل اليابان وكوريا الجنوبية والصين100% تقريبا من احتياجاتها البترولية. والمجلس القطبي يضم ثمانية أعضاء دائمين هم: الولاياتالمتحدة وكندا وروسيا والنرويج والدنمارك والسويد وفنلندا وآيسلاندا, كما يضم ست دول تحمل صفة' مراقب دائم', وهي دول من خارج منطقة القطب الشمالي, وهي: الصين واليابان والهند وإيطاليا وسنغافورة وكوريا الجنوبية, ولا يقبل المجلس أعضاء جددا بصفة' مراقب' إلا بالنسبة للدول القادرة علي بذل الجهد لتطوير منطقة القطب الشمالي. والدول ذات صفة' مراقب دائم' بإمكانها المشاركة بفاعلية في كل الأنشطة والقضايا والنقاشات المرتبطة بالقارة القطبية, وأيضا التعامل بشكل سريع مع عدد من القضايا المتنوعة التي من بينها تطوير مسارات بحرية جديدة وحماية البيئة وزيادة المشاركة في الأبحاث العلمية, وهذه الدول من حقها المشاركة في كل اجتماعات المجلس القطبي وفي المشروعات التي تنفذها لجان العمل الست التابعة للمجلس القطبي. ولتوضيح الأمر بالنسبة للمسار القطبي المقترح, نقول إن الناقلة أو السفينة التي تبحر من ميناء بوسان في كوريا الجنوبية في طريقها إلي مدينة روتردام الهولندية عبر قناة السويس تنطلق لمسافة22 ألف كيلومتر, بينما المسار الجديد الذي يمكن أن يمر عبر القناة الملاحية في القطب الشمالي يبلغ طوله15 ألف كيلومتر فقط المسافة الطبيعية. ففي الحالة الأولي, تصل السفينة إلي روتردام في24 يوما, بينما في الحالة الثانية, يمكن لها أن تصل في14 يوما فقط. وحتي وقتنا هذا, يمكن للسفن استخدام المسار الشمالي للإبحار لمدة أربعة أشهر فقط في العام, ولكن هذه المدة قد تزيد إلي ستة أشهر بحلول عام2020, وقد تصبح علي مدي العام بأكمله في عام2030 في حالة استمرار تأثيرات ارتفاع درجة حرارة الأرض علي القارة القطبية الشمالية. أنه لا توجد دراسات اقتصادية دقيقة حتي الآن حول الفوارق في التكاليف بين المسارين الأول والثاني, فإن التقديرات المبدئية تشير إلي أن الفوارق لن تكون كبيرة بالفعل قياسا بتكاليف تجهيز المسار الشمالي, ولكن في الوقت نفسه, فإن أي توفير في الوقت أو المال, ولو في جزء محدود من أشهر العام, قد تمثل فارقا يعتد به بالنسبة لبعض الدول والشركات الملاحية أيضا. وهناك خطط لبعض الدول الآسيوية لبدء تجربة هذا المسار البحري بشكل فعلي قبل نهاية هذا الصيف, ليتم نقل شحنات البترول الخام ووقود الطائرات بين كوريا وأوروبا, وسوف يكون هناك علي متن هذه الناقلات خبراء وعلماء متخصصون في أبحاث القطب الشمالي لإجراء مزيد من الاختبارات والتجارب علي عملية الإبحار عبر المسار القطبي. وتمتلك كوريا الجنوبية مثلا قاعدة بحرية اسمها قاعدة' داسان' في المنطقة القطبية مهمتها إجراء مثل هذه الأبحاث, كما تخطط لبناء كاسحة جليد عملاقة لبدء العمل في ترسيم المسار الجديد, وهناك خطط لتوقيع اتفاقيات تعاون مع دول شمال أوروبا بشأن استخدام المسارات البحرية والتعاون في مجال الطاقة وتنمية الموارد والكشف عن المعادن في المنطقة, مثل تلك الاتفاقية التي تم التوقيع عليها بين كوريا وجرينلاند في سبتمبر من العام الماضي. وهناك قاعدة بحرية كورية تجري من خلالها هذه الأبحاث بالفعل منذ فترة, ومقرها في ناي أليسوند بجزر سفالبارد النرويجية, كما توجد كاسحة جليد تدعي' أراون' تجري أبحاثها علي الحياة الطبيعية والبحرية في منطقة البحر القطبي, وهناك خطط لإرسال كاسحة جليد عملاقة ثانية إلي المنطقة قريبا للغرض نفسه. وتشير الدراسات الجيولوجية الحديثة إلي أن احتياطيات البترول في القطب الشمالي تقدر بنحو90 مليار برميل, إضافة إلي1669 تريليون متر مربع من الغاز الطبيعي. وبصفة عامة, توجد في البحر القطبي الشمالي ربع احتياطيات العالم من البترول تقريبا, و45% من احتياطيات الغاز الطبيعي. فهل ينجح الحماس الآسيوي في تحويل أزمة التغير المناخي إلي فرصة؟ وهل يصبح القطب الشمالي هو الكنز المفقود بالنسبة لدول آسيا الصناعية الكبري الذي يمكنها من توفير موارد الطاقة للقرن الحادي والعشرين, ومن توفير ولو جزءا من نفقات التبادل التجاري مع أوروبا؟ وأخيرا, فالأمر لا ينطوي علي مؤامرات وخطط للإضرار بنا كما هو واضح بقدر ما هي دول تسعي لتحقيق مصالحها بشتي السبل وتوفير ولو القليل من نفقاتها, مع فتح آفاق مستقبلية جديدة في مناطق جديدة, مستفيدة بما وصلت إليه من مستوي راق في البحث العلمي.