لمدة طويلة, حرصت الصين علي انتهاج سياسة خارجية غير صاخبة تتماشي مع إصرارها الدائم علي انتمائها لفئة البلدان النامية, وتنأي بها عن الصدامات والاحتكاكات غير الضرورية, حتي بعد تحقيقها قفزات تكاد تصل لمستوي الإعجاز علي مضمار التقدم الاقتصادي قبل سنوات. لكن المتابع للشأن الصيني سوف يستوقفه كثيرا أن بكين تخلع تدريجيا ثوبها القديم بإتباعها دبلوماسية القوي العظمي, منذ تولي زعيمها الجديد شي جينبينج, مقاليد السلطة في مارس الماضي. فالقيادة الصينية تري أن الوقت قد حان, ولا عذر للتأخير, لكي تأخذ الصين نصيبها المستحق عن جدارة من المكانة الدولية المناسبة لوضعها الاقتصادي المتميز كثاني أكبر قوة اقتصادية في عالمنا المعاصر بناتج محلي يبلغ8.227 تريليون دولار, فهي لا ترغب في الوقوع بخطأ اليابان التي ظلت تعاني من تصنيفها كعملاق اقتصادي وقزم سياسي. ولوحظ في هذا السياق أن أول اتصال تلقاه جينبينج عقب توليه كان من نظيره الروسي فلاديمير بوتين, ووصف جينبينج العلاقات الصينية الروسية بأنها ضمانة للتوازن الدولي, وكانت أولي زيارات الزعيم الصيني لموسكو في إشارة قوية لرغبة متزايدة في إقامة تحالف روسي صيني في مواجهة الولاياتالمتحدة وكسر حلقة احتكارها لرسم معالم ومسارات السياسة الدولية. فبكين تطمح لنظام دولي متعدد الأقطاب يتسع لقوي أخري تشارك بفعالية في إدارة شئون العالم بتوازن وحكمة بعيدا عن قبضة القوة المفضلة لدي الإدارات الأمريكية المتعاقبة. وتضع الصين في حساباتها أنها تنافس أمريكا علي المركز الأول اقتصاديا وسياسيا, وتود أن يكون التعامل بين البلدين بين ندين وليس بمعيار الأقوي والأضعف, ولعلها رغبت في إيصال رسالة بهذا المعني لواشنطن خلال أحداث قضية المواطن الأمريكي أدوارد سنودن الذي كشف عن تفاصيل برنامج إدارة الرئيس باراك أوباما للتجسس علي الاتصالات الالكترونية, واختار كشفها من هونج كونج, ولم تستجب بكين لطلبات واشنطن بسحب جواز سفر سنودن واعتقاله قبل أن يختفي ويظهر في العاصمة الروسية, حيث منحته روسيا حق اللجوء المؤقت مما دفع اوباما لإلغاء قمة كان من المنتظر عقدها مع بوتين الشهر المقبل. فالرفض الصيني في أغلب الظن بني علي قاعدة أنها لا تتلقي تعليمات ولا أوامر من الولاياتالمتحدة, ورأينا أيضا الجانب الصيني لا يتورع عن مجابهة الحليف الأهم لأمريكا في القارة الآسيوية, وهو اليابان بإرساله قطعه البحرية الحربية لجزر متنازع علي سيادتها مع طوكيو في بحر شرق الصين. ويتعامل المسئولون عن صناعة القرار في دوائر السلطة الصينية بقدر فائق من الحذر في التحركات الدبلوماسية, حتي لا تصل الخلافات مع أمريكا وغيرها إلي حافة الهاوية لاعتبارات المصالح الاقتصادية المتبادلة, خصوصا وأن الأراضي الصينية أضحت مصنعا ضخما لكبريات الشركات العالمية, فالصادرات الصينية تقدر بنحو057 ,2 تريليون دولار سنويا, تستأثر الولاياتالمتحدة بقرابة17.2 % منها, واليابان ب7.4 %, وكوريا الجنوبية%4.3. كذلك لم تعد بكين تتخوف من الأخذ بزمام المبادرة بطرح مبادرات لتسوية أزمات دولية ساخنة, مثل الأزمة النووية الكورية والإيرانية, والقضية الفلسطينية, بعد أن كانت المبادرة تأتي من جهة أمريكا أو البلدان الحليفة لها, فهي ترغب في تأكيد أحقيتها في طرح رؤيتها الخاصة لعلاج تلك الأزمات علي أن يحالفها الحظ وتنجح في إنهائها أو علي اقل تقدير التخفيف من حدتها وخطرها علي الأمن والاستقرار العالمي. والملمح الأبرز في دبلوماسية القوة العظمي أن الصين باتت واثقة من نفسها بما يجعلها تدافع عن قراراتها ومواقفها, وفي بعض الأحيان تعيد الكرة لملعب من يوجه لها الاتهامات, لا سيما فيما يخص سجلاتها في مجال حقوق الإنسان, والتلوث, والأمان الصناعي وغيرها من القضايا المتعارف أنها محل انتقاد بسببها. وهذه الثقة لا غبار عليها ولها حيثياتها وأسانيدها الموضوعية, غير أن الصينيين عليهم تدارك حقيقة حساسة ومهمة في أحدث طبعات سياستهم الخارجية وتتلخص في مساندتهم لأنظمة مرفوضة وملفوظة من شعوبها, كنظام بشار الأسد في سوريا, فالتأييد والمؤازرة يجب أن يكونا لتطلعات الشعوب وليس للجالس علي كرسي الحكم.