بلا مراس, غارقا في بحر الحياة.. رحال دائم السفر.. تتلقفه أمواج العزلة تارة, وتبتلعه أمواج الغربة تارة أخري.. يمضي العمر متنقلا بين مواني البحر المتوسط.. إلي أن رست سفينة الكاتب الإنجليزي لورانس داريل علي شاطيء عاصمة الذكري الإسكندرية.. تلك المدينة العتيقة التي تتبدل تحت ضربات فرشاة الأفكار.. تصرخ من أجل الهوية.. تتفرع مثل أذرع نجم البحر.. تبدأ من محور قبر مؤسسها الإسكندر.. هنا في فيلا إمبرون بشارع المأمون بحي محرم بك العريق, عاش داريل مستأجرا الطابق العلوي من الفيلا المشيدة علي الطراز الإيطالي, ذي السمة الغالبة علي طابع البيوت وقتها, عاش فيه حتي مغادرته الإسكندرية بشكل نهائي, في عقب العدوان الثلاثي علي مصر عام.1956 أحد عشر عاما قضاها في الإسكندرية, انعزل خلالها داريل عن الوسط العربي في المدينة, وفضل أن يعيش كأحد أفراد الجاليات الأجنبية, راح يستقي معرفته بالحياة المصرية من الفنانة اليهودية السكندرية إيفا كوهين, لكن إيفا- وهي الزوجة الثانية لداريل ضمن أربع زيجات له علي مدار حياته- لم تكن تعرف الكثير عن حياة المصريين بسبب أصولها وجذورها الأجنبية, وبالرغم من ذلك كانت مصدر إلهامه في رباعية الإسكندرية التي تتألف من أربعة أجزاء: جوستين, وبالتازار, ومونت أوليف, وكليا. كان داريل يستيقظ باكرا في الرابعة والنصف فجرا ليكرس بضع ساعات للكتابة, لم يكن يستخدم الآلة الكاتبة حتي لا يزعج ابنته الصغيرة, وإنما يكتفي باستخدام الأقلام. المطر يتساقط في الغالب قبيل الفجر, فيثير قشعريرة الهواء.. يغسل أوراق النخيل.. يغسل الحواجز الحديدية للبنوك والأرصفة.. تنساب من الميناء روائح الأسماك والشباك.. يرقب ظهور الفجر فوق الأسطح المختلفة للمدينة العربية.. الصمت يغلف المدينة كلها قبل أن توقظها الطيور.. فجأة يتعالي الصوت العذب للمؤذن من المسجد.. يليه آيات من السور القرآنية تقرأ بصوت رخيم شجي, بالرغم من حياة اللهو التي عاشها, كان داريل يطرب لصوت الأذان ويستمتع بموسيقاه السماوية المعبأة بالروحانيات. وقع أقدام تدوي في الذاكرة.. مشاهد وأحاديث منسية تقفز من الجدران.. تتوهج ثمار البرتقال كالمصابيح فوق أشجار شوارعها.. مناضد مقاهي شارع فؤاد الشهيرة: باستروديس وبودروت.. فندق سيسيل.. وغيرها من التفاصيل التي مر بها فصل الشتاء وسجلها داريل في رائعته الخالدة رباعية الإسكندرية في أواخر خمسينيات القرن الماضي. نافسه في حب الإسكندرية, أديبنا نجيب محفوظ.. الذي لم تقتصر عبقريته فقط علي وصف الحارة الشعبية أو المقهي البلدي فحسب.. وإنما إمتد نبوغه في الوصف لنواحي عديدة تجلي بعضها في قدرته علي رسم لوحة بديعة لطقس الشتاء بروايته السمان والخريف.. مستخدما فيها كل ألوان ومهارات الرسام. انطلق محفوظ بريشته, فكانت البداية: يعجبني جو الإسكندرية.. لا في صفائه وإشعاعاته الذهبية الدافئة.. ولكن في غضباته الموسمية.. عندما تتراكم السحب وتنعقد جبال الغيوم.. ويكتسي لون الصباح المشرق بدكنة المغيب.. ويمتليء رواق السماء بلحظة صمت مريب! ثم تتهادي دفقة هواء فتجوب الفراغ كنذير أو كنحنحة الخطيب, عند ذلك يتمايل غصن أو ينحسر ذيل, وتتابع الدفقات.. ثم تنقض الرياح ثملة بالجنون.. ويدوي عزيفها في الآفاق.. ويجلجل الهدير, ويعلو الزبد حتي حافة الطريق.. ويجعجع الرعد حاملا نشوات فائرة من عالم مجهول. متأثرا بسيزان والمدرسة الانطباعية, يضيف نجيب محفوظ مزيدا من الألوان علي لوحته, ليجسد فيها أحاسيسه تجاه البرق ومدي تأثره به: تندلع شرارة البرق فتخطف الأبصار, وتكهرب القلوب, وينهل المطر في هوس.. فيضم الأرض والسماء في عناق ندي.. عند ذلك تختلط عناصر الكون وتموج وتتلاطم أخلاطها كأنما يعاد الخلق من جديد.. عند ذلك فقط يحلو الصفاء ويطيب.. إذا انقشعت الظلمات.. وأسفرت المدينة عن وجه مغسول, وخضرة يانعة, وطرقات متألقة, ونسائم نقية, وشعاع دافيء, وصحوة ناعمة. شيء حدثني أن تلك الدراما إنما تحكي أسطورة مطمورة في قلبي, وتخط طريقا مازال غامض الهدف.. أو تضرب موعدا في غمغمة لم تفهم بعد... بين أدب نجيب محفوظ ولورانس داريل حكايات تتلاشي بعيدا بين النجوم.. لا يبقي منها إلا الذكري العطرة لعاصمة الذكري.. الإسكندرية.. ومع أول شعاع ضوء يدخل من جهة الشرق, تجفف المدينة واجهات بيوتها الرطبة من ماء المطر.. وتتلألأ في ضوء الشمس مثل جوهرة.