برحيل أسامة أنور عكاشة، فقدت المدينة «الفاتنة» «حبة» أخرى من «عنقود» محبيها وعشاقها، الذين بادلوها حباً ب«عشق»، وصدقاً ب«إخلاص»، وموهبة ب«عبقرية»، وكان قدر المدينة هو رحيل «عشاقها» الحقيقيين، إما بالهجرة أو الرحيل للقاهرة، أو معانقة «ملاك الموت» بحثاً عن عالم «أنقى وأطهر». بجدارة استحق «عكاشة» أن يصل لقلوب وعقول «السكندريين»، وأن يصبح سكندرى «الهوى»، رغم جذوره التى تعود لمحافظة «كفر الشيخ»، وكان من المعتاد رؤيته فى أى مكان فى المدينة، خاصة الأماكن والمناطق «الشعبية» التى يعشقها، ويرى ناسها هم السكان «الحقيقيون لمصر» والذين جار عليهم «الزمن» المنفلت من بين أيديهم، كسحبة قوس فى أوتار «كمان». أربعة أعمال قدمها «عكاشة» تدور أحداثها فى «الثغر» جعلت منه «أمير الدراما السكندرية»، بلا منازع فى قلوب وعقول أبناء «الثغر»، بداية من «الراية البيضا» التى تنبأ فيها ب«سحق» القيم والمثل والأصالة على يد فريق الجهل والمال والنفوذ المنتمى ل«فضة المعداوى» وأتباعها، وظهور ألف «فضة» غيرها، مروراً ب«النوة» وعالم «الشراغيش» و«الخرتية» الذين يبيعون ويشترون أى شىء وكل شىء بدون رأس مال حقيقى سوى «الفهلوة» و«تفتيح المخ»، مروراً بتحفته «زيزينيا» والولى والخواجة، وإسكندرية القديمة والسؤال الدائم والمحير لبطله «بشر عامر عبدالظاهر»، لأيهما ينتمى وهو المشدود بين عالمين أحدهما مصرى بحكم انتمائه لأبيه، والآخر «إيطالى» بحكم انتمائه لأمه، وآخر أعماله «عفاريت السيالة» التى تدور أحداثه فى الحى العريق وعالم المهمشين الذين تهبط عليهم ثروة من السماء فتحيل حياتهم إلى جحيم. تعتبر «رباعية الإسكندرية» للكاتب البريطانى لورانس داريل، الذى عاش فى «الثغر» خلال الفترة من 1942 حتى مغادرته لها عام 1956، أكثر الأعمال الأدبية التى تناولت أجواء المدينة «الكوزموبليتانية» خلال فترة بدايات القرن الماضى، والتى رصدها «داريل» إبان إقامته بها، وعمله مراسلاً «حربياً» للجيش البريطانى، ثم «ملحقاً» صحفياً لشؤون الأجانب فى الخارجية البريطانية، أثناء فترة الحرب العالمية الثانية، فى فيلا «إمبرون» بشارع المأمون بحى محرم بك العريق، عاش داريل مستأجراً الطابق العلوى من الفيلا المشيدة على الطراز الإيطالى، ذى السمة الغالبة لطابع البيوت وقتها. وبعيون الصحفى رصد «داريل» «المتناقضات» بين عالمين عاشتهما المدينة ذات «الروحين» وقتها، «إسكندرية الأوروبية» التى تحتضن الجاليات الأجنبية التى كان محور حياتها الحفلات، والكورنيش، والعلاقات المتعددة، ومربع وسط البلد فى منطقتى «محطة الرمل والمنشية»، مركز أعمالهم ونشاطهم التجارى والمالى، و«إسكندرية المصرية» وعالم الطبقة المتوسطة والمهمشين والفقراء والمعدمين وأحيائهم الشعبية، ومن خلال «المتناقضات والغرائب» بين العالمين، تدور «رباعية داريل» والتى صدر أول أجزائها «جوستين» عام 1957، والتى حملت اسم بطلة أحداث الرواية، الفتاة اليهودية «الغانية» التى تعيش حياة «ماجنة» ووراءها قناعتها بالقضية «الصهيونية» والهجرة لإسرائيل «أرض الميعاد» فى نهاية الرواية والجزء الأول من «الرباعية» والتى وضع بها داريل «المدينة» فوق خريطة واهتمام «الأدب العالمى» بعد ترجمة الرواية لعدة لغات. وما بين رحلة الميلاد فى 29 أبريل 1863، والوفاة فى 29 أبريل 1933، عاش الشاعر اليونانى «قسطنطين كفافيس» حياته حتى عمر السبعين، فى منزله بأحد الشوارع الجانبية خلف مسرح سيد درويش، المتفرع من شارع اسطنبول، فى بناية «عتيقة» لا تزال شاهدة على «ضمير» مهندسى وعمال البناء وقتها، ممتهناً العديد من المهن فى ذات الوقت، سمساراً وموظفاً وتاجراً وشاعراً، رافضاً هجرة «المدينة» ومقاهيها التى احتضنت كتابة أعماله وأشعاره وأشهرها «إيليت». ترجمت أعمال وأشعار «كفافيس» لأكثر من 70 لغة، وحول منزله فى بدايات التسعينيات، لمتحف يضم مقتنياته الشخصية، ويعتبر مقصد السياح «اليونانيين» فى زياراتهم للمدينة. بدأت الإسكندرية تحتل مساحة واسعة فى أعمال أديب نوبل الراحل نجيب محفوظ فى روايته الشهيرة «اللص والكلاب» فى بداية الستينيات، والتى استحضر أجواءها من القصة الحقيقية للسفاح السكندرى الشهير محمود أمين سليمان، ونقل «محفوظ» أحداث الرواية لعالمه «الأثير» فى القاهرة القديمة. وعادت «الثغر» مرة أخرى فى روايته «السمان والخريف»، والتى تبدأ أحداثها فى القاهرة، بحوار بين بطل الرواية «عيسى الدباغ»، الموظف الكبير الذى أطاحت «الثورة» بعمله وأحلامه، وأمه التى يخبرها باعتزامه التوجه للإسكندرية التى يلتقى فيها ب«ريرى» الفتاة العابثة، والتى يرتبط بها لفترة من الوقت، قبل أن ينهى علاقته بها، رافضاً وجودها، وفى ربط درامى أشبه ب«عودة الإنسان» لنفسه الحقيقية، بعد «اغتراب» فى إطار بحثه عن «الحقيقة» فى رحلة ومتاهة الحياة، يتقابل مرة أخرى عيسى الدباغ مع ريرى، أمام تمثال «سعد زغلول» بعد أن يعرف أن الطفلة الصغيرة التى معها هى ابنته، وهو ما أعاده «محفوظ» فى رواية «الطريق» والتى كانت فيها الإسكندرية «ملاذ الهروب» لبطل الرواية صابر الرحيمى، بحثاً عن أصله ونسبه لأبيه، بعيداً عن عالم «الليل» الذى عاش فيه بالقاهرة، فى كنف والدته «بسيمة عمران» وأعمالها غير المشروعة. وكانت «ذروة» عشق محفوظ للمدينة، والذى ظهر واضحاً وجلياً فى رواية «ميرامار»، وهى تعتبر الرواية الوحيدة له، التى تبدأ وتنتهى أحداثها فى الإسكندرية، والتى كان البطل فيها هو «المكان» المحرك الرئيسى لأحداث وأبطال الرواية، من خلال بنسيون «ميرامار» بمحطة الرمل والذى تملكه «يونانية» عجوز، من بقايا الأجانب الذين عاشوا فى المدينة، ورفضوا الرحيل، وفى الرواية يرصد محفوظ ب«عبقرية» فكرة احتضان وتقبل المدينة للوافدين عليها، باعتبار «البنسيون» دائماً مقصداً للغرباء والوافدين. ويرصد محفوظ شخصيات «البنسيون» الوافدين على المدينة، من ثقافات مغايرة، ما بين عامر وجدى الكاتب الصحفى «المسن» الوقور، الذى اعتزل الكتابة وهجر القاهرة، مفضلاً العيش والحياة فى الإسكندرية، وهى شخصية ربما كان بها ملمح من شخصية «محفوظ» نفسه، الذى كان يفضل الإقامة فى الإسكندرية فى شهر يوليو من كل عام، ويجلس بصحبة أصدقائه كل مساء فى مقهى «بترو» بكورنيش لوران، والذى أقيم مكانه عمارة ضخمة فى بداية الثمانينيات، وطلبة مرزوق الإقطاعى السابق، الذى أممت الثورة أملاكه، فبات يشعر ب«الهوان» من العيش فى القاهرة، ويرى أن الاعتداء على ماله ب«التأميم» اعتداء على الكون، حسنى علام المنفلت «أخلاقياً» وسرحان البحيرى «الانتهازى» عضو الاتحاد الاشتراكى، الذى يتخذ الاشتراكية «شعاراً» لأطماعه، ومنصور باهى «المذيع» الحالم والغارق فى المثالية والرومانسية، والذى يعيش صراعاً دائماً بين ما يمليه عليه ضميره، وبين سيطرة وتحكم شقيقه الأكبر «ضابط الشرطة». وكانت زهرة «خادمة البنسيون» الريفية الجميلة، محط أنظار ومطمع الجميع، والتى تترك «البنسيون» فى النهاية، بحثاً عن مكان آخر أطهر وأنقى، ويكفى ما كتبه محفوظ فى الرواية، على لسان «عامر وجدى»: «الإسكندرية قطر الندى، نفثة السحابة البيضاء، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء، وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع».