منذ ظهور المؤشرات الأولي لما آل إليه المآل في مصر في الثلاثين من يونيو, وقد بدا واضحا أن الولاياتالمتحدةالأمريكية لم تدخر جهدا لتحويل دفة الأحداث في مصر لمصلحة أهدافها.. بداية من استخدام سفيرتها السابقة لدي القاهرة آن باترسون لهذا الغرض أو بعدة أساليب ملتوية وغير صريحة أخري كان من أهمها تسليط أبواق اعلامها المرئي والمكتوب لهذا الغرض فحسب. لكن, لأننا أصبحنا في عصر عنوانه الجديد ليس كل ما تتمناه واشنطن تدركه, فقد مني الاعلام الأمريكي بانتكاسة هي الأولي من نوعها في تاريخه بعدما أثبت تلونه وازدواجيته في المعايير بانحيازه للنظام المعزول في مصر. فلم يخسر الإعلام الأمريكي هذه الجولة في مصر فقط, بل كان مردودها علي الأمريكيين أفدح وأفظع لأن ثقتهم اهتزت في الجهاز الاعلامي الذي لطالما استخدم بنجاعة فائقة في تشكيل رأيهم العام. وكانت آخر سقطات الإعلام الأمريكي في هذا الشأن علي وجه التحديد, ما قامت به جريدة الواشنطن بوست العريقة والتي يمتد تاريخها إلي عام 1877 حين حرفت تصريحات الدكتور محمد البرادعي مستشار رئيس الجمهورية بزعم أن خطأ ما حدث في الترجمة(!!). ليصبح الانطباع الذي أراد أحد أهم رموز الاعلام الأمريكي أن يوصله للعالم أن الدكتور البرادعي لا يمانع العفو عن الرئيس المعزول محمد مرسي مقابل فض اعتصام مؤيديه في رابعة العدوية والنهضة. والنتيجة أن يبدو الرجل في موقف من لا يحترم ضرورة تطبيق القانون أو من يقبل بالتضحية بدماء الشهداء الذين راحوا ضحايا في أحداث دامية شهدتها مصر في عهد الرئيس المعزول. وحتي تدرك جيدا حجم الورطة التي وقعت فيها الولاياتالمتحدةالأمريكية بسبب اطاحة المصريين بحكم الاخوان, يكفيك أن تقرأ بين السطور ما تسعي الصحافة الأمريكية جاهدة لإخفائه من شعور بالخجل وهي تدافع عن رموز التنظيم الذي طالما اتهمته بالتشدد والتطرف, بل وحتي بالفشل في تشكيل معارضة حقيقية في وجه النظام الحاكم بمصر. فأصبحت واشنطن من علي منصتها الاعلامية كلاعب يلقي بكرة لتصل إلي أبعد مدي, لكنه فوجيء بأن يديه أقصر من أن تجعل الكرة تصل لأبعد من قدميه. فبدلا من توصيل رسائل تحذيرية للمصريين والتأثير علي آرائهم, جاءت النتيجة عكسية تماما. حيث لاقت هذه الخطوات الأمريكية صدي مقيتا بين الأمريكيين أنفسهم الذين عبروا من خلال تعليقاتهم علي الأخبار ومقالات الرأي الخاصة بمصر بأنهم مصدومون في كتابهم الذين أصبحت مهمتهم الأولي هي الدفاع عن رموز نظام كانوا بالأمس يتهمونهم بالارهابيين والمتطرفين و أصحاب أياد متورطة في أعمال عنف استهدفت أمريكيين. وبناء عليه, لم يعد من المستغرب مثلا أن تقرأ مقالا للرأي في صحيفة واشنطن بوست تحت عنوان في مصر: شعبية التيار الإسلامي يجب أن تستمر. وفي المقال تقرأ كلمات لم تكن تتخيل أن تقرأها في جريدة أمريكية مثل أن: تنظيم الاخوان المسلمين ظل هو أكثر الحركات السياسية والثقافية تأثيرا في منطقة الشرق الأوسط منذ ستينيات القرن الماضي. بل وأيضا يتحدث كاتب المقال عن التيار المعاكس للاخوان في مصر وهم الشباب العلمانيين ومؤيديهم من الغربيين. وينتقد هذا التيار المعاكس للاخوان بأنهم يحلمون بتشكيل دولة ديمقراطية حرة لكن في الوقت نفسه يرفضون فكرة فوز أنصار الشريعة الاسلامية في أية انتخابات(!!), أو حتي يشاركوا في كتابة الدستور ولا يشاركوا في رسم خريطة المجتمع إلا في اطار خطوط علمانية واضحة. وإذا كانت الواشنطن بوست حاولت ارتداء ثوب الواعظ الديني الذي يفضح المخطط العلماني لإقصاء الاسلاميين, فقد ارتدت وول ستريت جورنال ثوب الثوري المخلص, إذ حاولت استدرار مشاعر التعاطف مع التيار الاسلامي في مقال تحت عنوان انتفاضة الدولة العميقة. والمقال يرسم صورة درامية عن مؤامرة حاكها الجيش مع أقطاب معارضة مرسي في مكتب بنادي الضباط البحريين حتي ينزل المواطنون بكل هذه الأعداد في الشوراع يوم 30 يونيو مطالبين باسقاط النظام.. لينزل الجيش في نهاية الأمر استجابة لرغبة الشعب. وكأن الشعب كان يهنأ برغد العيش في ظل العام الذي عاشه تحت حكم مرسي وكان هذا هو دافعه الأكبر للنزول إلي الشوارع. وبذلك أبي الاستعلاء الأمريكي علي نفسه إلا أن يصدق أن مثل هذه الملايين تخرج إلي الشوارع بدوافع فلولية بحتة. حتي وإن كان أصغر متابع للشأن المصري يدرك جيدا حجم العطب الذي تعانيه علاقة كل من الفلول والعسكر والمعارضة بالشارع المصري. فالفلول هم من خرج المصريون ضدهم في الخامس والعشرين من يناير والعسكر المجلس العسكري السابق الذي أساء ادارة البلاد في فترة ما بعد الثورة وخرج المصريون أيضا يهتفون ضده... أما المعارضة فقد فشلت في التأثير علي جموع الشعب قبل وبعد الثورة وعجزت في كل الأحوال عن جر الناس إلي الشوارع. والأمر لم يقتصر علي الاعلام المكتوب فحسب, وإنما الإعلام المرئي أيضا وكان لشبكة سي ان ان نصيب الأسد في الدفاع عن نظام مرسي لدرجة أن وصفها الكثيرون بأنها النسخة الانجليزية من الجزيرة مباشر مصر. وعلي موقعها علي الانترنت يمكنك مشاهدة فيديو لما يدور في ميدان رابعة العدوية تحت عنوان: مرسي: ضحية ثورة العقل المصري. وأسفل هذا الفيديو تقرأ تعليقات القراء الأمريكيين التي تعبر عن صدمتهم الشديدة مما يروج له اعلام بلادهم من دفاع عن أولئك الذين تعهدوا بتنفيذ عمليات انتحارية تفجيرية ضد مصالح كل من هو ضدهم. باختصار شديد, لقد وضعت الادارة الأمريكية نفسها في موقف خسرت فيه الشارعين المصري والأمريكي في الوقت نفسه. ولم تعد لعبة الضغط الإعلامي تجدي نفعا في التغطية علي تناقض مواقفها. بل ولتنتظر المزيد من الخسائر مالم تعترف بأن رهانها علي تنظيم الاخوان المسلمين كان خاطئا منذ اللحظة الأولي