تخويف من الفوضي وترهيب من نشوب حرب أهلية مع كثير من المخالفات الانتخابية...هي عناصر خلطة شيطانية طالما تم استخدامها في كثير من دول العالم الثالث للتأثير علي الناخبين ونتائج صناديق الاقتراع, ونجحت هذه الخلطة مؤخرا في تأمين فترة حكم جديدة لحزب الشعب الكمبودي الحاكم ورئيس الوزراء هون سين.ولكن الفوز في الانتخابات التشريعية التي أجريت في كمبوديا الاسبوع الماضي لم يأت بالاغلبية المطلقة التي كان يتوقعها سين وحزبه, ليس هذا فقط بل كشفت نتائج الانتخابات عن استخفاف وسوء تقدير الحزب الحاكم لشعبية حزب الانقاذ الوطني الكمبودي,حزب المعارضة الرئيسي بزعامة سام رينسي الذي عاد من المنفي قبل اسبوع من الانتخابات بناء علي عفو ملكي. وأظهرت النتائج الأولية للانتخابات حصول حزب الشعب الكمبودي الحاكم علي68 مقعدا من اجمالي123 مقعدا في البرلمان, في حين حصل حزب الانقاذ الوطني علي55 مقعدا فيما وصف بأنه اسوأ اداء لحزب الشعب الكمبودي خلال خمسة عشر عاما. ويكفي مقارنة نتائج الانتخابات الأخيرة بنتائج الانتخابات السابقة في عام2008 حيث سيطر حزب الشعب الكمبودي الحاكم علي90 مقعدا في البرلمان في حين لم تحصل المعارضة سوي علي29 مقعدا. وقد رفضت المعارضة في كمبوديا النتائج الأولية للانتخابات مبررة ذلك بأنها رصدت مخالفات خطيرة بينها عدم وجود أسماء علي قوائم الناخبين وتصويت جنود بالجيش والشرطة بدلا من مواطنين آخرين, وطالب حزب الإنقاذ الوطني الكمبودي بتشكيل لجنة مستقلة تضم أعضاء من الأممالمتحدة للتحقيق بصورة عاجلة في المخالفات التي شهدتها هذه الانتخابات.وأشارت منظمة' هيومن رايتس ووتش' إلي حدوث بعض حالات تزوير حيث قام احد كبار المسئولين بالتصويت في أكثر من دائرة الانتخابية كما استخدمت السلطات قوات الأمن لتهديد سكان بعض القري واجبارهم علي التصويت للحزب الحاكم. من جانبها, ذكرت لجنة الانتخابات الوطنية في كمبوديا, إنه لم يكن هناك مخالفات في عملية التصويت ودعا أوتش بوريث وزير الخارجية الكمبودي المعارضة إلي مواجهة الحقيقة خاصة أن المراقبين الدوليين قد أكدوا أن الانتخابات العامة لهذا العام قد اتسمت بالنزاهة والشفافية.يذكر هنا أن الاتحاد الأوروبي لم يرسل أي مراقبين للاشراف علي انتخابات هذا العام نظرا لعدم استجابة الحكومة الكمبودية للاقتراحات التي تقدم بها في انتخابات سابقة لاصلاح النظام الانتخابي وتفادي وقوع المخالفات. وحتي مع وجود مخالفات كثيرة إلا انه لم يكن من المتوقع أن تحقق المعارضة فوزا كاسحا في هذه الانتخابات أو أن يهزم الحزب الحاكم وزعيمه هون سين(61 عاما) رئيس وزراء كمبوديا منذ28 عاما وصاحب أطول فترة حكم في دول جنوب شرق آسيا.فحزب الشعب الكمبودي يتمتع بالتفوق الكمي والكيفي في البلاد فهو يسيطر علي القوات المسلحة والشرطة والقضاء والاعلام, كما يضم في عضويته أكثر من4 ملايين مواطن أي ما يمثل أكثر من نصف اجمالي الناخبين المسجلين البالغ عددهم3,6 ملايين ناخب. ويتمتع الحزب بقاعدة شعبية واسعة في الريف ربما تقديرا للنمو الاقتصادي الذي تم تحقيقه بعد الدمار الشامل الذي خلفه نظام الخمير الحمر, كما يجيد الحزب اللعب علي وتر الرعب من تكرار مآسي الحرب الأهلية التي عاني منها الشعب في فترة السبعينات من القرن الماضي حيث مازال كثير من الناخبين يعتبر التغيير نوعا من المقامرة والمجازفة ويفضل السلام والاستقرار علي اي متطلبات انسانية أخري.وبالنسبة للمواطن الكمبودي العادي حزب الشعب الحاكم هو الأكثر نفوذا وهو الوحيد القادر علي الحفاظ علي السلام والاستقرار وضمان استمرار تأييد وتبرعات الجهات الدولية للمساعدة في عمليات اعادة الاعمار. ومما زكي الرهبة من التغيير هو تحذير حزب الشعب الكمبودي,الذي تضم لجنته المركزية كل القادة العسكريين البارزين في البلاد, قبل أيام من الانتخابات من نشوب حرب أهلية في البلاد في حالة عدم فوزه في تلميح لقيام الحزب بشن حملة عنف دموية ضد المعارضة وانصارها اذا لم تأت نتيجة الانتخابات علي هواه. علي الجانب المقابل فان المعارضة لا تتمتع بنفس الثقل في الشارع وتنحصر شعبيتها بين صفوف الشباب الراغب في التغيير.ويرجع المحللون تزايد شعبية المعارضة إلي اندماج حزب سام رينسي وحزب حقوق الانسان في عام2012 لتشكيل حزب الانقاذ الوطني الكمبودي فضلا عن عودة سام رينسي, من المنفي في فرنسا والتي لجأ إليها قبل11 عاما هربا من عقوبة سجن يقول انها ذات دافع سياسي, مما منح المعارضة وانصارها دفعة وحماسا لاحراز تقدم, الغريب أن عودة رينسي جاءت بناء علي تدخل من رئيس الوزراء هون سين,القائد السابق بقوات الخمير الحمر, لدي ملك كمبوديا لاصدار عفو ملكي عن رينسي.وكان غرض هون سين, لاعب الشطرنج الماهر, من هذه الخطوة تخفيف حدة التوتر السياسي في الشارع ومد يد التسوية السياسية والرغبة في المصالحة وبالتالي تعزيز' غطاء الشرعية' علي الانتخابات علي حد وصف بعض المحللين الكمبوديين. ولكن حسابات لاعب الشطرنج خانته هذه المرة, صحيح أنه نجح في الاحتفاظ بالسلطة, التي صرح قبل اسابيع أنه يعتزم البقاء فيها لعقد آخر,ولكنه ربما فقد للأبد مكانته ك'رجل كمبوديا القوي الذي لا يقهر'. فحصول المعارضة علي هذا العدد من المقاعد في البرلمان أضعف موقفه داخل البرلمان وداخل حزبه, فاصرار المعارضة علي رفض نتائج الانتخابات وربما مقاطعتها للجلسة الافتتاحية للبرلمان قد يحول دون اجتماع البرلمان الجديد وتشكيل الحكومة الجديدة مما يدخل البلاد في فراغ سياسي. وفي الوقت نفسه يعاني حزب الشعب الحاكم من كثير من الانقسامات الداخلية و ما كان يغطي علي هذه الانقسامات هو المصالح والولاء للرجل القوي هون سين ولكن الآن, وفقا لأحد المحللين الكمبوديين, فان بعض العناصر المنقسمة لديها فرصة أكبر للتهديد بالانشقاق علي الحزب والانضمام لصفوف المعارضة كوسيلة للي الاذرع وتحقيق مكاسب داخل الحزب. ورغم ان النتائج النهائية للانتخابات لن تعلن قبل الرابع عشر من اغسطس, لكن الواضح أن هون سين خرج منها' زعيما أضعف' وهو ما قد يحوله إلي' زعيم أشرس' فالرجل الذي مر بمراحل مختلفة من قائد للخمير الحمر ثم زعيما مواليا للسلطات الفيتنامية ثم رئيس وزراء منتخب واعتاد الانقلابات والعنف والهجمات العسكرية ضد الخصوم والصفقات المريبة للفوز بلقب رجل كمبوديا القوي علي الارجح لن يتقبل الخسارة بروح رياضية.