ليس من شك في أن ما تسمي نفسها جماعة الإخوان المسلمين تجابه أزمة تهدد وجودها في الصميم, وذلك علي إثر الثورة العارمة التي اندلعت ضدها, نتيجة لفشلها الكامل في إدارة الشأن المصري بعد عام من وصول مرشحها إلي كرسي الرئاسة. ولسوء الحظ, فإن استجابة الجماعة للأزمة تكاد أن تتبلور جميعها ضمن الأفق ما قبل العقلاني; وبصنفيه الرؤيوي الحالم بالسماء تهبه الخلاص مما يعنيه, والانتحاري الماسادي( نسبة إلي قلعة ماسادا) الساعي إلي استرجاع مفردات عصر قرابين الأضاحي والدماء. ومن هنا ما يلحظه المرء من دوران الخطاب السائد علي منصة الاعتصام الذي تنظمه من تقول عن نفسها جماعة الإخوان المسلمين في ساحة رابعة العدوية بين التبشير بالرؤي المنهمرة, بغزارة, علي خطبائها من الشيوخ الذين صفت نفوسهم فجأة وأصبحوا جاهزين لاستقبال الإشارات القدسية التي تخصهم بها السماء, وبين التحذير من أولئك الذين نذروا أنفسهم للموت من أجل رجعة إمامهم الغائب إلي قصره. وهنا فإنهم يشيرون إلي ما يقولون إنها كتائب من الرجال والنساء الذين اختاروا أن يجعلوا أنفسهم مشاريع شهداء; وبما يعنيه ذلك من أن الشهادة نفسها قد استحالت إلي مشروع وعلي النحو الكاشف عن طبيعتها الانتهازية الفجة. هكذا فإن ساحة رابعة العدوية قد أصبحت- علي مدي الأسبوعين الماضيين- مهبطا لملائكة ورؤي وبشارات غزيرة علي النحو الذي توافرت معه مادة حية كافية تتيح للباحثين في علم النفس الديني, أن يأخذوا منها مادة لتحليلاتهم التي كانت تعتمد قبل ذلك علي المرويات التاريخية فقط. إذ لا مجال أبدا لدرس هذا الخطاب الرؤيوي بعيدا عن المفاعيل النفسية التي ينتجها عند المتلقين له. حيث الخطاب لا يستهدف ما هو أكثر من طمأنة المخاطبين به وتثبيتهم نفسيا بترويج الادعاء بوقوف السماء معهم من خلال ما ترسل من الإشارات والرسائل التي تتواتر في شكل رؤي وبشارات نورانية. ولقد بلغت قوة هذا التأييد أن النبي الكريم لم يكن وحده هو محور هذه الرؤي والبشارات, بل إن الملاك جبريل المكلف من السماء بنقل رسائل الله إلي الأرض قد هبط في ساحة رابعة; وبما يعنيه ذلك من تأكيد الدعم المباشر من الله عبر ملاكه المخصوص. وغني عن البيان أن مروجي هذا الخطاب يدركون فاعليته الكبري, وتأثيره الكاسح علي من يتلقونه من أتباعهم. إذ هم يعتمدون, لا محالة, علي ما يعرفون استقراره في وعي هؤلاء المتلقين من موروث يرتقي بالرؤي المنامية إلي مقام الوحي من جهة, وعلي ما يؤمنون به, من جهة أخري, من أن حضور النبي الكريم في الرؤيا يكون هو السبب الكافي في تأكيد صدقها ووثوقيتها. وبحسب ذلك فإنه يلزم قبول رواية كل من يقول برؤيته للنبي في المنام, ولو كان- في الحقيقة- مدعيا; حيث الصدق هنا لا يرتبط بالرائي, بل يرتبط بمجرد إحضاره للنبي في الرؤيا لتكون رؤيته مقبولة. وبالطبع فإن ذلك يعني غياب أي معيار تتميز به الحقيقة عن الادعاء. ولعل ذلك يؤول- وعلي نحو ضروري- إلي أن القائم بالترويج لهذا الخطاب لا تشغله الحقيقة, بقدر ما يشغله التأثير الذي يتركه علي المتلقين بقصد تثبيتهم. ولعل انشغاله بهذا التأثير, ولو علي حساب الحقيقة, يتبدي في التجرؤ علي إظهار النبي الكريم متصاغرا في حضرة رجل الجماعة محمد مرسي. إذ يروي أحدهم أن النبي الكريم قد تراءي له في جمع فيه مرسي, وحين حان وقت الصلاة فإن الجمع قد قدم النبي الكريم لإمامتهم فيها, فما كان من النبي إلا أن تراجع مقدما لمرسي ليؤم الجمع- وفيهم النبي- في الصلاة. إن من يروج لهذه الرؤيا ليس معنيا بحقيقتها, بقدر ما يعنيه ما ستقوم بتثبيته في وعي الجمهور المتلقي من الدلالة السياسية التي يبتغيها, رغم عدم التصريح بها. فهو يدرك- ومن دون شك- ما يعرفه الناس جميعا من أن الحالة الوحيدة التي قدم فيها النبي غيره للصلاة بجماعة المسلمين كانت هي تلك التي قدم فيها أبي بكر ليصلي بهم حين اشتد عليه المرض. وأن هذا التقديم كان من بين ما جري الاستناد إليه في تأكيد أحقية أبي بكر بخلافة النبي في الحكم السياسي للمسلمين; وبما يعنيه ذلك من أن إمامة أبي بكر للصلاة, كانت الدليل علي تثبيت إمامته السياسية. وإذن فإن من يروج لرؤيا تقديم النبي لمرسي ليؤم الجمع في الصلاة, يعتمد علي هذا المعروف للجمهور من أن التقدم في إمامة الصلاة في حضرة النبي, هو دليل علي التقدم في الإمامة السياسية, بحسب ما جري مع أبي بكر, ليؤسس علي ذلك أن تثبيت المكانة السياسية لمرسي هو إشارة من النبي نفسه. وبالطبع فإن القصد من ذلك هو البلوغ بالجمهور المتلقي للخطاب إلي الإيمان بأن احتشاده في الميدان, وإلي حد الاستعداد لبذل النفس, ليس من أجل شخص مرسي, بل من أجل إنفاذ ما أشار به النبي, وأراده. وإذن, فإنه القصد السياسي وهو يخفي نفسه وراء مخايلات الدين ومراوغاته. وفضلا عن ذلك, فإن طبيعة الخطاب الرؤيوي تكشف, علي العموم, عن وقوف المتلقين له عند مرحلة, في مسار التطور الإنساني, تتميز بقصور الإنسان, وعدم بلوغه حال الرشد العقلي. ولعل ذلك يتسق مع حقيقة أن الجماعة التي ينتسبون إليها تضع علي رأس هيراركيتها التنظيمية ما تقول إنه امر شدها العام; وبما يعنيه ذلك من الإقرار بحاجة المنتسبين إليها إلي من يوجههم ويرشدهم. إن ذلك يعني أن الجماعة ومنتسبيها تظل تنتمي إلي لحظة ماضية في تاريخ الإنسانية, كان البشر خاضعين فيها لهيمنة الخطابات الوصائية الأبوية. لمزيد من مقالات د.على مبروك