مستوى الوعي وطبيعة الاستجابة: يندفع الإنسان في مواجهة الأزمات الوجودية الكبرى التي تجابهه (فردا وجماعة) إلى بلورة آليات دفاعية يسعى من خلالها، إلى التغلُّب عليها، أو النزول بآثارها الضارة إلى حدها الأدنى. وليس من شكٍ في أن هذه الآليات الدفاعية تتسق مع طبيعة ومستوى وعي الإنسان في لحظة حصول تلك الأزمة؛ ففي الحال التي يكون فيها الوعي في أدنى مستوى للتطور، يفتح ذلك الباب أمام تبلور ضروبٍ من الآليات التي تستثير وتهيج الجانب الانفعالي/الأولي في الإنسان. أما في الحال التي يبلغ فيها الوعي درجة أعلى من الرقي العقلي، فإن ذلك على العكس، يؤول إلى تبلور استجابات ذات طبيعة عقلانية للأزمة، وفيما ترتكز الاستجابات ذات الطابع الانفعالي/الأولي، على ردود أفعالٍ عاطفية تتراوح بين الانكفاء على الذات والتماس الخلاص والسلوى عبر ضروبٍ من الرؤى الماشيحانية، وبين الإقبال التراجيدي الإرادي على الموت (تحت شعارات التضحية والفداء)، فإن الاستجابات ذات الطابع العقلاني تقوم على التفكير والتدبُّر للإمساك بالأسباب الغائرة التي أدت إلى الأزمة، سعياً إلى رفعها وتجاوز الوضع الذي تخلَّف عنها، واستلهام الدرس والعبرة على الذي يجنبها مواجهة هذا المصير المأزوم مرة ثانية. وكمثال، فإنه يمكن الإشارة إلى الجماعة اليهودية التي عرفت تاريخا للأزمة، يمتد على مدى القرون، ولا تزال تداعياته تتفاعل للآن؛ وقد تطورت استجاباتها في مواجهة تلك الأزمات، بحسب ما أحرزت من تطورٍ في وعيها العام، فقد شهد التاريخ المبكر للجماعة ما يمكن القول أنه الاستجابة اللاعقلانية للأزمة؛ والتي تمثلت فيما راحت تبلوره - إبان أزمة السبي البابلي - من الأدب الرؤيوي الماشيحاني الذي يتجلى فيما يُعرف بأسفار ما بعد السبي التوراتية، والتي راحت تحلم فيها الجماعة بالحصول على الخلاص في الملكوت الأعلى. وفي إطار نفس الاستجابة اللاعقلانية، فإن الجماعة قد واجهت أزمة الحصار الروماني بالانتحار الجماعي في قلعة ماسادا، وبالطبع فإن ذلك يختلف عن الاستجابة العقلانية التنويرية التي ردت بها الجماعة في العصر الحديث، على ما تعرض له اليهود من عمليات التمييز والاضطهاد في شرق أوروبا. وليس من شكٍ في أن ما تُسمي نفسها جماعة "الإخوان المسلمين المصرية" تجابه أزمة تهدد وجودها في الصميم، وذلك على إثر الثورة العارمة التي اندلعت ضدها في مصر نتيجة لفشلها الكامل في إدارة الشأن المصري بعد عامٍ من وصول مرشحها إلى كرسي الرئاسة. ولسوء الحظ، فإن استجابة الجماعة للأزمة تكاد تتبلور ضمن الأفق ما قبل العقلاني؛ وبصنفيه الرؤيوي الحالم بالسماء تهبه الخلاص مما يعانيه، والانتحاري الماسادي (نسبة إلى قلعة ماسادا) الساعي إلى استرجاع مفردات عصر قرابين الأضاحي والدماء. خطابٌ ممتد: لعله يلزم التأكيد أن هذا الخطاب - بجانبيه الرؤيوي والعنفي - ظل هو السائد على مدى العام الفائت منذ وصول الإسلاميين إلى السلطة، وفقط فإن المرء يشهد تصاعدا في نبرته على منصة الخطابة في "ساحة رابعة"، وذلك فضلاً عما بدا من أنه يتحول من فضاء الكلمات إلى الاشتغال واقعا على الأرض، فالمصريون لم يعرفوا، على مدى العام المنصرم، إلا السعي إلى التعالي بسلطة "مرسي"، عبر جعله موضوعا لشرعيةٍ نبوية وقرآنية؛ وبما يترتب على ذلك – بالضرورة - من النظر إلى الناقدين لأدائه المتردي وكفاءته المحدودة على أنهم من خصوم الإسلام ومعانديه. وبحسب ذلك، فإنهم يجعلون من الخصومة مع "مرسي" خصومة دينية، وليست سياسية. وهكذا فإن الخطاب قد وضع كل الناقدين لمرسي في خانة خصوم الدين، الذين يسعون إلى أن يطفئوا نور الله بأفواههم!!. وإذ يصبح المرء خصما للدين، فإنه يكون مُستحل الدم؛ وبحيث يكون المطلوب من حاملي الخطاب أن يطبقوا ما يقولون أنه حكم الشرع فيه، ولعل ذلك هو ما يقف وراء الممارسة الدامية العنيفة التي يندفع إليها حاملو هذا الخطاب الإقصائي على مدى الأسبوعين الأخيرين منذ عزل "مرسي". وإذا كان خصوم "مرسي" لا بد أن يكونوا، والحال كذلك، خصوما "لله"، فإن المدافعين عن "مرسي" يكونون - تبعا لذلك - مدافعين عن "الله"، وهكذا فإنهم، في اندفاعهم إلى الغرق في مستنقع الدم، يكونون مسكونين بأنهم يحاربون في معركة الله، التي سيخرجون منها رابحين نصرا أو شهادة. ولعل ذلك هو ما يدعم توجه خطباء رابعة إلى التعالي بنبرة خطاب الأضاحي والدماء؛ وعلى النحو الذي اندفع معه المئات من شبابهم إلى وضع أنفسهم في مواجهات دامية مع القوى التي تحتكر العنف في الدولة (مثلما جرى أمام دار الحرس الجمهوري التي هي منشأة عسكرية يتيح القانون لأفرادها الدفاع عنها بالنار، وإلا فإنهم يتعرضون للجزاء التأديبي الذي قد يصل إلى الإعدام)، ومع أفراد الجمهور العادي (بحسب ما جرى من مواجهات في المنيل والجيزة ورمسيس). ولسوء الحظ، فإنه بدا أن مروجي خطاب التضحية بالدماء من أجل نصرة الله ودينه، لم يكونوا مشغولين حقا إلا بالإتجار بدم من يدفعون بهم إلى ملاقاة مصائرهم الدامية؛ وأعني راحوا يخوضون بهم حرب الصور في مواجهة خصومهم، وفي هذه الحرب أيضا، فإنهم كانوا حريصين على أن يطردوا هؤلاء الخصوم إلى خارج ساحة الدين، حيث راحوا يذيعون أن هؤلاء الخصوم أردوا شبابهم قتلى، بينما هؤلاء الشباب يؤدون صلواتهم. ولقد كانت تلك أكذوبة فضحتها - وللمفارقة- صور الشباب القتلى الذين كان بعضهم يرتدي أحذيته في قدميه، وهو ما لا يفعله المسلم في صلاته، لكنها حروب السياسة وهي تمارس الابتزاز، ولو عبر التوسل بالأكاذيب من أجل أن تستدر العواطف، وتستثير الإشفاق. المصطفون في رابعة: وبالطبع فإنه يتفق مع ذلك ما يلحظه المرء من دوران الخطاب السائد على منصة الاعتصام الذي تنظمه من تقول عن نفسها جماعة "الإخوان المسلمين" في ساحة رابعة العدوية بين التبشير بالرؤى المنهمرة، بغزارة، على خطبائها من الشيوخ الذين صفت نفوسهم فجأة، وأصبحوا جاهزين لاستقبال الإشارات القدسية التي تخصهم بها السماء، وبين التحذير من أولئك الذين نذروا أنفسهم للموت من أجل رجعة إمامهم الغائب إلى قصره.. وهنا فإنهم يشيرون إلى ما يقولون أنها كتائب من الرجال والنساء الذين اختاروا أن يجعلوا أنفسهم "مشاريع شهداء"؛ وبما يعنيه ذلك من أن الشهادة نفسها قد استحالت إلى "مشروع"، وعلى النحو الكاشف عن طبيعتها الانتهازية الفجة. وهكذا فإن ساحة رابعة العدوية قد أصبحت - على مدى الأسبوعين الماضيين - مهبطا لملائكة ورؤى وبشارات غزيرة على النحو الذي توفرت معه مادة حية تتيح للباحثين في علم النفس الديني، أن يأخذوا منها مادة لتحليلاتهم التي كانت تعتمد قبل ذلك على المرويات التاريخية فقط. إذ لا مجال أبدا لدرس هذا الخطاب الرؤيوي بعيدا عن المفاعيل النفسية التي ينتجها عند المتلقين له، حيث الخطاب لا يستهدف ما هو أكثر من طمأنة المُخاطبين به وتثبيتهم نفسيا، بترويج الادعاء بوقوف السماء معهم، من خلال ما ترسل من الإشارات والرسائل التي تتواتر في شكل رؤى وبشاراتٍ نورانية!!. ولقد بلغت قوة هذا التأييد أن النبي الكريم لم يكن وحده هو محور هذه الرؤى والبشارات، بل إن الملاك جبريل المُكلَّف من السماء بنقل رسائل الله إلى الأرض قد هبط في ساحة رابعة؛ وبما يعنيه ذلك من تأكيد الدعم المباشر من الله عبر ملاكه المخصوص، فلعل أحدا يداخله الارتياب بخصوص الرؤى النبوية، فيأتيه اليقين جازما من الملاك الأسمى، ولسوء الحظ فإن هذا الرائي لجبريل لم يحدد الصورة التي شاهد عليها الملاك المشهور عنه إمكانية التشكُّل في صورٍ شتى. تزييف الرواية من أجل تثبيت الإمامة: وغنيٌّ عن البيان أن مروجي هذا الخطاب يدركون فعاليته الكبرى، وتأثيره الكاسح على من يتلقونه من أتباعهم، إذ هم يعتمدون على ما يدركون استقراره في وعي المتلقين من موروث يرتقي بالرؤى المنامية إلى مقام الوحي من جهة، وعلى ما يؤمنون به، من جهة أخرى، من أن حضور النبي الكريم في الرؤيا يكون سببا كافيا لتأكيد صدقها. وبحسب ذلك فإنه يلزم قبول رواية كل من يقول برؤيته للنبي في المنام، ولو كان- في الحقيقة- مُدعياً؛ حيث الصدق هنا لا يرتبط بالرائي، بل يرتبط بمجرد إحضاره للنبي في الرؤيا لتكون رؤيته مقبولة، وبالطبع فإن ذلك يعني غياب أي معيارٍ تتميز به الحقيقة عن الادعاء. لعل ذلك يؤول- وعلى نحوٍ ضروري- إلى أن من يروج هذا الخطاب لا تشغله الحقيقة، بقدر ما يشغله التأثير الذي يتركه على المُتلقين بقصد "تثبيتهم". ولعل انشغاله بهذا التأثير، ولو على حساب الحقيقة، يتبدى في التجرؤ على إظهار النبي الكريم متصاغرا في حضرة رجل الجماعة "محمد مرسي"، إذ يروي أحدهم أن النبي الكريم قد تراءى له في جمعٍ فيه "مرسي"، وحين حان وقت الصلاة فإن الجمع قد قدَّم النبي الكريم لإمامتهم فيها، فما كان من النبي إلا أن تراجع مقدَّما لمرسي ليؤم الجمع- وفيهم النبي- في الصلاة. إن من يروَّج لهذه الرؤيا ليس معنيِّاً بحقيقتها، بقدر ما يعنيه ما ستقوم بتثبيته في وعي الجمهور المتلقي من الدلالة السياسية التي يبتغيها، رغم عدم التصريح بها، فهو يدرك ما يعرفه الناس جميعا من أن الحالة الوحيدة التي قدَّم فيها النبي غيره للصلاة بجماعة المسلمين كانت هي تلك التي قدَّم فيها أبي بكر ليصلي بهم حين اشتد عليه المرض، وأن هذا التقديم كان من بين ما جرى الاستناد إليه في تأكيد أحقية أبي بكر بخلافة النبي في الحكم السياسي للمسلمين؛ وبما يعنيه ذلك من أن إمامة أبي بكرٍ للصلاة، كانت الدليل على تثبيت إمامته السياسية. وإذن فإن من يروَّج لرؤيا تقديم النبي لمرسي ليؤم الجمع في الصلاة، يعتمد على هذا المعروف للجمهور من أن التقدُّم في إمامة الصلاة في حضرة النبي، هو دليلٌ على التقدُّم في الإمامة السياسية، بحسب ما جرى مع أبي بكر، ليؤسس على ذلك أن تثبيت المكانة السياسية لمرسي هو إشارة من النبي نفسه، وبالطبع فإن القصد من ذلك هو البلوغ بالجمهور المُتلقي للخطاب إلى الإيمان بأن احتشاده في الميدان، وإلى حد الاستعداد لبذل النفس، ليس من أجل شخص مرسي، بل من أجل إنفاذ ما أشار به النبي وأراده. وإذن، فإنه القصد السياسي وهو يخفي نفسه وراء مخايلات الدين ومراوغاته. السلطة المفوضة من السماء: وفضلاً عن ذلك، فإن طبيعة الخطاب الرؤيوي تكشف، على العموم، عن وقوف المتلقين له عند مرحلة، في مسار التطور الإنساني، تتميز بقصور الإنسان، وعدم بلوغه حال الرشد العقلي. ولعل ذلك يتسق مع حقيقة أن الجماعة التي ينتسبون إليها تضع على رأس هيراركيتها التنظيمية ما تقول أنه "مرشدها العام"؛ وبما يعنيه ذلك من الإقرار بحاجة المنتسبين إليها إلى من يوجههم ويرشدهم. إن ذلك يعني أن الجماعة ومنتسبيها تظل تنتمي إلى لحظة ماضية في تاريخ الإنسانية، كان البشر خاضعين لهيمنة الخطابات الوصائية الأبوية. وبالطبع فإن ذلك يفتح الباب أمام التساؤل عن مدى إمكانية أن يكون من لا يرون في الجمهور إلا أن يكون موضوعاً للوصاية والإخضاع، هم القائمين على بناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة، مع العلم بأن هذه الدولة تقوم على النقيض الكامل لخطاب الوصاية والأبوية. ولسوء الحظ، فإن اللوازم القصوى لهذا الخطاب الرؤيوي لا تقف عند حد هذا المأزق السياسي، بل وتتجاوز إلى ما يمكن القول أنه المأزق الديني كذلك. إذ الحق أن تعالي بُناة هذا الخطاب الرؤيوي بولاية السيد" مرسي" إلى حيث جعلوا البشارة بولايته آتية من رب السماء وبوساطة نبيه الكريم، الذي تواتر مجيئه إلى ساكني رابعة؛ إنما يعني أنهم يسيرون في ذات الطريق الذي سبقهم إلى السير فيه خصومهم الشيعة الذين خرجوا من التعالي بإمامة "عليّ" وسلالته إلى حيث أصبحت نصا ووصية من السماء. ولعلهم بذلك يتيحون للمهتمين فهم الكيفية التي نشأت بها المعتقدات التي يتقاتل حولها الناس، ويؤكدون لهم على أن السياسة هي الأصل فيها، ولا شيء سواها. على مبروك - معهد العربية للدراسات اعتصام الإخوان في ساحة رابعة.. قراءةٌ في خطابٍ مأزوم الترويج لتقديم النبي لمرسي ليؤم الصلاة يعني الترويج لتقدمه في الإمامة السياسية مثلما حدث مع أبي بكر الصديق... ليؤسس أن تثبيت المكانة السياسية لمرسي إشارة من النبي نفسه!! ما يفعله الإخوان من تلاعب بالخطاب الديني يوضح الكيفية التي نشأت بها المعتقدات التي يتقاتل حولها الناس كاشفا أن السياسة هي الأصل فيها وليس الدين