بأنفاس متقطعة, صادرة من صدر الكور, تلهث ألسنة اللهب وراء طعامها من فحم الكوك. نباتي الغذاء هذا الفرن! يساعده علي هضم كل ما يقدم له, المزيد والمزيد من الهواء المندفع من فيه المسمي قديما كلاب النار. تجذب يد الصبي( العامل) المتعلقة- دائما- بحلقة حديدية مثبتة بسلسلة بقلب الكور, صعودا وهبوطا, فتتردد أنفاسه شهيقا وزفيرا.. صلصلة الحلقة والسلسلة تأتي بموسيقي- فرقة آلات نحاسية قديمة- رنانه, سرعان ما تتناغم مع حركة جسم الصبي, وأنفاسه الرقيقة, حتي إنك إذا ما عايشت هذه الحالة أدركت أن الحديد ينصهر نغما وطربا, لا بفعل الحرارة والطرق. يلين طبعه, وينكسر صلده أمام هذه العلاقة الحميمة بين الإنسان ومفردات صنعته. حتي هذا السناج الهباب الأسود لن يزعجك كثيرا, حيث تبتلعه مدخنة أعلي سقف الدكان. يحن الفرن الآن إلي هذا الزمن القديم الجميل, فلم يعد يري الصبي ورقصه, ولا يستمع إلي جلجلة الحلقة والسلسلة, ولا ينعم بأنفاسه الحانية, فقد تمرد صاحب الكور عليه وعلي أجر الصبي, واستبدلهما بموتور كهربائي كمبروسر- قلبه من حديد أجوف, صاخب الصوت, أنفاسه كريح عاتية, تفوح برائحة السولار الخانقة, يصب حمم النار صبا داخل الفرن الهرم المصنوع من الطوب اللبن الذي لم يقو علي التحمل فتساقطت جوانبه, كما تشقق جلد الكور الرابض-كديكور- في ركن الدكان بلا خفقان.