يسطو فزع علي الوجوه, لابسو الرداء الأسود يقذفوننا بالنار, نتقدم الهويني, نتراجع كالسكاري, تتلاقفني الحيرة. لماذا يقلقهم صراخنا؟ تتزايد تشكيلاتهم, يزومون بالخوار, مدرعات القنابل المسيلة للدموع تتصدر المشهد, الغازات تنطلق من أسرها, تفترش الأجواء, كأنها أحجار ألقيت في بحر الناس, فالتهمتهم الدوامات: أتعتقد أن الاختناق يثبط العزائم؟ أمست القنابل صديقة لنا, نطاردها أينما وقعت, نردها ثانية فوق رؤوسهم, يتحركون في صفوف منتظمة لتحرير الميدان من الشعب, تسح السماء رصاصا مطاطيا, انتقل من رقعة الي الأخري كالبهلوان, حينما يكرون أفر, وحينما يفرون أكر, كأفلام توم وجيري: لا أدري لماذا يصممون علي قتلنا؟ تحتضن الأرض أقدامنا, جلمود الأسفلت لا يمنعنا التقدم, يطوفنا الاصرار بعزم الرجال, اندفع مخترقا الصفوف, أي نعم أخشي الاصابة والدم, ولكن لابد من مهاجمين, تدافع الكثيرين يخلخل بنيان الأمن, أي نعم يملكون البارود والنار, ونحن نصمد فيتقهقرون, كلماتنا ترج السماء: الشعب يريد إسقاط النظام. أرقص متفاديا نثار البارود, ضبابية المشهد تصدمني: (نلعب الكرة, أرض الملعب شاغرة, عيل من درب الجزارين يحتمي بعصابته, يتوسط ساحتنا الصغيرة, يأبي الابتعاد, نخاطب وده, نرجوه المغادرة, يرفض الزحزحة, نتجنب الشر, نترك الجمل بما حمل, نخط ملعبا ثانيا, وتهجم عصابته, يتكرر السيناريو والحوار, الشد والجذب لا يفيدان, ننسخ المشهد الأول كربونيا ثلاث مرات, أينما نذهب نجده أمامنا, تفرعن وصمم أن نغادر المكان, هاجمته ضربا وركلا وعضا, باغته بالمفاجأة( وفين) يوجعك يابن الهرمة, كلا الفريقان التزما بالفرجة, انتفضت عضلاتي مدفوعة بآيات الكبت المهول, طالت المعركة, اصابته الكدمات والجروح بالوجع, انسحب وفريقه, استأنفنا اللعب وكأننا لم نلعب طوال حياتنا). الجنود ينظمون صفوفهم وكأنهم سيشنون هجوما ماحقا, المقذوفات تنطلق من كل حدب وصوب, القناصة ينتشرون فوق البنايات المحيطة بالميدان, تنتابني التساؤلات: أنحن الأعداء؟ لماذا يطلقون في وجوهنا كل هذا السيل المنهمر من النار؟ أمعركتهم معركة وجود؟ ترتج الاستغاثات في الصدور الموجوعة: سلمية.. سلمية. يدافعون عن الميدان بكل شراسة وكأنه إرث الأجداد, ينعقون كالغربان, أصاب جسدي النصب والتعب, أتكعبل في الأقدام, انكفئ علي وجهي, الأيادي الصلدة تحول دون الفتك بي, أتراجع بضع خطوات, يغرقون وجهي بالخل, أكره رائحته النفاذة, أنزوي فوق لرصيف بعيدا عن خط المواجهة المباشر, التقط الأنفاس, دوامات ومزاحمات واللب شارد والعقل متفحم. (خمسة وأربعون مترا مساحة شقتنا, أنفاس أمي وأبي تطاردني, سيمفونية الشهيق والزفير تأز كالكهرباء, أبي منكفئ في عبه, تطويه همومه في دنيا السكوت: دوما يعلل شظف حياته بالشرف. ربما يكون طيبا زيادة عن اللزوم. راتبه بالكاد يكفينا, لا ألومه, بل أحترمه. يلمحني مكتئبا فيعطيني عشرة جنيهات, أرفضها, فيصر ملحا, يرتسم وجهي بالتكشيرات: ما ذنب الرجل يافالح؟ لا أدري. أتشعر بالعجز؟ أي نعم, ينكسني الشعور بالدونية. زملائي أصحاب الملاحق يديرون البنوك الآن. وأنا الأول علي الدفعة, تائه في دروب العسس, ممزق فوق حبال المدينة. والله يا والدي لم أقصد ادماء شعورك, ولكن رذاذ الكلام يحط علي وجهك المكفهر, يسربلني رداء الغيظ, ضلوعي تطق شررا) أقدام الناس تزيحني, أنط كالرهوان في ركابهم, يهدأ العدو, وجوهنا تتلاقي بوجوهنا, أنفاس لاهثة وأخري متقطعة وثالثة موءودة, أبدان تعبة وأخري متحفزة, أطس أنفي بالخل, حديد يا عم حديد, أنا الآن عمود من الفولاذ وبركان من نار, استفز الجميع: بلاش خوف, الرب واحد والعمر واحد. نرقد بحذر, تقع الأدخنة جوار قدمي, أمسكها بيدي اليمني, أعدو قرابة مائة متر, أقذفها بين حشودهم, أتراجع مسرعا, يشتوي جوفي بالأدخنة, تأخذ الحماسة شابا, يطارد السيارة المدرعة, يقفز عليها من اليمين واليسار ومن الخلف والأمام, كاد يقبض علي العسكري الذي يطلق الخرطوش في شتي الاتجاهات, يتشبث العسكري ببندقيته الملاذ: أيعتقد أن وجوده متحقق بمقذوفات بندقيته؟ أشبه ما يكون بالإنسان الآلي لا عقل له ولا قلب, مجرد برنامج الكتروني لا شيء فيه سوي الضغط علي زناد القتل. أليس له أبناء وأخوة؟ ألم يشعر بالحزن أو الألم قبلا؟ نزعوا قلبه وعقله وثبتوا مطرحهما شريحة الكترونية. ألهذا الجندي أصدقاء؟ ماذا يدور بينهم لحظات السمر؟ أيشرب الشاي ويدخن السجائر؟ أيضحك; ويبكي؟ أيمشي في الشارع والحارة والزقاق؟ أشارك الشباب ملهاته, القدود النافرة تعتلي صهوة المدرعة تترنح وتتطوح بتعنت وأصرار تدهس الكثيرين, أوجاعهم موسيقي تصويرية للمشهد, التنقل بين الحركات العنيفة أتاح لها الهرب, آه ياله من صداع فظيع! رائحة الشياط تزكم أنفي, تهاجمني البقايا والأشلاء: (يحكي أبي': يتسلل الملثم إلي دروب القرية, تزوي طلقات نارية, تنتشر الهمهمات فوق الدكك, لا أحد يتحرك, فالروح التي حصدتها الطلقات معلومة مسبقا لكل دان وقاص, أسأله: ماذا حدث؟ أجابني متهما إياي بالغباء: الملثم ثأر لعائلة من عائلة أخري. مقابل ماذا؟ صرة فلوس. أيمكن أن يمتهن فرد ما القتل؟ لحظتها لم أجد اجابة شافية, فامتهان القتل خيال بعيد). ما بين التقدم والتأخر خبط ورزع, أجساد تتعري من أرواحها هنا وهناك, صمت وصياح, هدير ونفير, ساعات الخطر يتحلي الإنسان بأبهي سترة بتسامق عزمي, يتفصدني الشعور بالنصر, تسبح النداءات في السماء: واحد.. اثنين.. الجيش المصري فين؟ تثور الأرض, تنتشر الأغبرة, الآلاف يجرون الآلاف, أمست الحياة مرتبطة باللحظة, أراني: (أحبو علي بساط التأمل, المصير يأبي التحديد, يلاحق الفشل مشاريعي, كل الأبواب موصدة, عهدت المقاهي سكوني, أبحث في الوجوه عن بارقة أمل, وما من أمل ينبت, أتسول بقعودي عطف أبي وحزن أمي, أكفر بقراءة الصحف والمجلات, لا شيء في التلفاز سوي مسلسلات الأثرياء, قصورهم الضخمة تصيبني بالغثبان, نساؤهم( التي شرتية) مغرورة تتأرجح عجيزتهم صعودا وهبوطا ينصبون خيام الفرفشة, تفوح روائح الحشيش والبانجو وكؤوس الخمر المترعة بحبات الكريز, موسيقي الفالس والتانجو والشيكابيكا يتناقلها أثير المنطقة العشبية, يتقافزن في حمامات سباحة الخدر, وأقصي يمين الصورة عقود تمليك المحروسة, احرك مؤشر القنوات, جوقة السلطان يستبدلون بيوتهم باستوديوهات الأخبار يبرزون للجاهلين عبقرية الأمبراطور: سيداتي سادتي: اليوم زيارة غير مسبوقة لرئيس غير متبوع, والمنافسج افتتاح مصانع الكوع والبوع, الكائنة بأرض الينبوع, وبجوار مرفأ الجربوع, والاقتراب من الموكب ممنوع فأشاوس الحرس الخاص مستعدون لقنص الأرواح). تكسرت عظامي, بلغ التعب الحلقوم يقاوم آلة قتل عملاقة دماء في كل مكان, يعبث الضباط بحياتنا, يصبون جام غضبهم من فوهات بنادقهم, يفشون غليلهم بالثأر منا, وكأننا دمي يحركونها علي مسرحهم يتمترسون خلف مدرعاتهم, يزحف الشعب يطلقون الحمم والبارود, بنيان الناس المرصوص يكتسح الأرض والفراغ, لا يفل الحديد إلا الحديد, هجوم من شتي الدروب والبقاع, الأبدان شرسة تحطم سواتر الخوف والتراجع, ينتابهم الهلع والفزع, يتعطل الحديد والرصاص, أمست الأرض كتلة بشرية هائلة لا حدود لها, خرج الكائن الجلمود من القمقم, تقطعت خيوط الشرانق, مازال العساكر يعافرون اخترقت سياراتهم, يهربون كالجرزان, تهل الدبابات صفراء اللون, تتوحد الحناجر: الشعب والجيش إيد واحدة. هربت الشرطة تحرير الميدان من جند السلطان مركبات الجيش تنتشر بالمكان, أقطع الميدان طولا وعرضا أجهش بالنحيب. أنهيت قراءة الوريقات بصعوبة بالغة تبللت رفاته بالدموع المدرارة, سمقت شهادته في أوراقه يتمكن من أتمامها, مما يحرمني الوقوف علي مشهد مصرعه: أيمكن أن ترتد إليه الروح ليكمل سرد الحكاية؟ أيرضي بمغادرة السماء والرجوع ثانية إلي الأرض ليلمس نهاية المشوار؟ أيخبرنا عن الخيانات؟ اعترف لك الآن بأنني حين عدت إلي الشقة, طال وقت غيابك, تقاذفتني أمواج مضطربة. أفصح عن انشغالي عليك أم أصبر؟ التجم لساني, اكتنفني التوتر, لم يطب لي الانتظار اقتحمت ميدان التحرير, نسيت البحث عنك, جرفتني المظاهرات إلي شطآن الأنصهار, بعثت سنوات عمري الفائتة, عاركت الأنكسار, حطمت قيودي, فتكت بجسد الخوف, التحفت الأرصفة وثيرة الفراش, نعزف لحن الموت, تعملق غيابك, الحيرة تفتك بي, أجرجر أقدامي إلي المشرحة, عشرات الجثث ملقاة هنا وهناك: لا معالم ولا حدود, أسير علي غير هدي بين نثار اللحم والدم, ها أنت تعرقلني لأرتمي في أحضانك, تجففني الدموع, ألملمك بين أناملي: آه.. قضيت علي بقيتي الهرمة يابني. بقايا جسدك مفرفرة بالطلقات كالغربال, كل الأيادي القانصة كبشت ملء كفها من لحمك, كل زبانية السلطان نهشوك, الآلاف يحيطون بجسدك, بأياد صلبة يشدون أزري, أحدهم يعطيني حافظة نقودك وأوراقك, أحملك كأنك مازلت وليدا, أوسدك الأرض الطرية, أتلو الشهادة, أقود ابني إلي الميدان. عصام الدين محمد أحمد