لم يطلع الله عز وجل عباده علي ما في قلوب بعضهم بعضا, فليس من سنته سبحانه وتعالي أن تنكشف القلوب للناس, ومن أطلعه الله من الأنبياء علي قلوب عباده فإنه لم يأمره أن يعمل بذلك, بل أمره بالعمل بالظاهر , ولذلك أبي رسول الله صلي الله عليه وسلم أن يقتل من علم أن في قلبه نفاقا, وقال:إني لم أومر أن أنقب قلوب الناس, صحيح البخاري1581/4], ووجه صلي الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم إلي معاملة الغير بما يظهر من حاله, وعدم العمل بالظن والقرائن غير الجازمة الدالة علي باطن مخالف للظاهر, فقال لأسامة بن زيد حين قتل الرجل الذي قال: لا إله إلا الله, ظنا منه أنه قالها متعوذا من القتل, فقال صلي الله عليه وسلم: هلا شققت عن قلبه لتعلم أقالها أم لا, صحيح مسلم96/1]. وقال صلي الله عليه وسلم يوما للمختصمين عنده: إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له علي نحو مما أسمع منه, فمن قطعت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإ نما أقطع له به قطعة من النار, صحيح البخاري952/2]. وبذلك أوجب الله علي المسلمين العمل بالظاهر والتثبت من الحقيقة, فلا تكون أحكامهم مبنية علي ظنون وأوهام أودعاوي لا يملكون عليها بينات, وهذا من رحمة الله وتيسيره علي عباده, ومن باب تكليفهم بما يطيقون ويستطيعون, بل أوجب الله عز وجل ذلك في حالات الحرب, فقال:ياأيها الذين آمنو إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقي إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا,النساء:94], ففي الآية تذكير للمؤمنين بأن نعمة الإيمان هي نعمة من الله بها عليهم, وقد كانت هذه النعمة قبل أن يمن عليهم بها مفقودة منهم والذي من عليهم بنعمة الإسلام قادر أن يمن علي عدوهم في لحظة القتال, فلا ينبغي أن يستبعد المسلمون أن يهدي الله عدوهم للإسلام في تلك اللحظة. قال الحافظ ابن حجر رحمة الله:'' وفي الآية دليل علي أن من أظهر شيئا من علامات الإ سلام لم يحل دمه حتي يختبر أمره, لأن السلام تحية المسلمين, وكانت تحيتهم في الجاهلية بخلاف ذلك, فكانت هذه علامة,فتح الباري259/8]; ففي هذا من الفقه باب عظيم, وهو أن الأحكام تناط بالمظان والظواهر لا علي القطع واطلاع السرائر; فلا يتهم إنسان بنفاق من غير بينة أو حتي بعمل إحدي خصال النفاق, ولا يصح بالأولي أن يتهم بكفر أو فسق أو بدعة من غير بينة وإلا فإن أناسا سيقتلون وحرمات ستنتهك بدعوي قائل إنه وقع في قلبه أن هذا رجل منافق فيقتله أو يسجنه أو يبعده, أو إنه كذاب فيعامله بمقتضي ذلك فيحصل فساد عريض, فيتهم البريء, وتنتهك الحرمات بالدعاوي والظنون الكاذبة. ان خلاف الظاهر هو الظن وقد قال تعالي:..وإن الظن لا يغني من الحق شيئا,النجم:28], ومحاولة الكشف عن الباطن ضرب من التجسس, وقد قال سبحانه ياأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا, الحجرات:12]. وبذلك تعلم أن قاعدة الحكم بالظاهر قاعدة عظيمة لو وعاها المسلمون وعملوا في جميع الميادين في الحكم بين الناس وفي الحكم عليهم وفي تقويم إعمالهم لأثر ذلك أكبر الأثر في استقامة المجتمع بإزالة البغضاء ونشر الأخلاق الفاضلة, ولكن من الناس من يحسبون أنهم أذكياء ومن ذوي البصائر النافذة التي تخترق القلوب فتستخرج ما فيها, وتقرأ الغيب في ملامح الوجوه, ولايعترض هنا معترض بأن الفراسة والتو سم حق; لأننا نقول إن الفراسة أهلها من الذين نور الله قلوبهم بالعلم والإيمان, وهي مع ذلك لايجوز الحكم بها; لأن صاحب الفراسة مهما علا شأنه فلن يبلغ رتبة النبي صلي الله عليه وسلم الذي كان يقضي ويحكم بالظاهر, قال الشاطبي: إن أصل الحكم بالظاهر مقطوع به في الأحكام خصوصا, وبالنسبة إلي الاعتقاد في الغير عموما, أيضا فإن سيد البشر صلي الله وعليه وسلم مع إعلامه بالوحي يجري الأمور علي ظواهرها في المنافقين وغيرهم, وإن علم بواطن أحوالهم, ولم يكن ذلك بمخرجه عن جريان الظاهر فمن أظهر شعائر الدين أجريت عليه أحكام أهله مالم يظهر منه خلاف ذلك'',فتح الباري496/1]. فالهم وفقنا لما يرضيك عنا, واجعلنا ممن يطيعونك فيما تأمر وتنهي. المزيد من مقالات د. علي جمعة