سبق أن كتبت كثيرا محذرا من مخاطر الاختزال والتعميم خاصة في مجال العلاقات المتبادلة بين الجماعات. وكيف أن مخاطر النظرة الاختزالية التعميمية يمكن أن تتسبب بل إنها قد تسببت عبر التاريخ في عديد من المجازر الدموية التي مازالت البشرية تعاني آثارها; ولعلنا أحوج ما نكون الآن للتنبه لتلك المخاطر في ظل ما تشهده بلادنا من ارتفاع صيحات التخوين المتبادلة والتي تتجاوز الأفراد إلي الجماعات. وإذا كنا علي يقين من أن تلك الموجة سوف تنحسر يوما بين القوي السياسية المصرية; رغم الثمن الفادح الذي ندفعه جميعا من استمرارها; فإن علينا واجبا فوريا ملحا يدعونا للتحذير من امتداد تلك الحالة المصرية لتشمل الجماعة الفلسطينية. ثمة من يحاول اختزال الشعب الفلسطيني في أبناء قطاع غزة باعتبار أن القطاع هو الأرض الفلسطينية اللصيقة بالحدود المصرية, مغفلا أن أبناء غزة لا تتجاوز نسبتهم14% من مجموع الفلسطينيين; ثم يحاول ثانية اختزال أبناء غزة في منظمة حماس الإخوانية; رغم أن أحدا حتي من غلاة الحمساوية أن كل أبناء غزة حمساويون. ومن ثم فمن الخطأ أن نتعامل مع الشعب الفلسطيني برمته لم يدع كما لو كان مسئولا عن الممارسات الاستفزازية المتعالية لفصيل حماس الإخواني; بحيث يصبح الدفاع المصري عن حقوق الشعب الفلسطيني مقصورا علي تيارات الإسلام السياسي. قد يكون بيننا من يقدم علي ذلك الاختزال متأثرا بطبيعة الرباط العضوي بين الفرع الحمساوي والأصل المصري لجماعة الإخوان, خاصة والمواجهات قائمة بين جماعة الإخوان المسلمين المطالبة بعودة الرئيس المعزول ومعارضوهم; أو متأثرا بالاتهامات التي تلاحق قادة حماس بشأن العديد من الجرائم والانتهاكات للأمن القومي المصري والتي مازال يلفها الغموض. ولكن قد يكون هناك أيضا من يسعي عن عمد لتدمير العلاقة الاستراتيجية بين مصر وفلسطين وهو بذلك يتجاوز حدود الخطأ الانفعالي التلقائي لنصبح بالفعل حيال خطيئة السعي المقصود للإضرار بالأمن القومي المصري. إننا حين نصف العلاقة المصرية الفلسطينية بالاستراتيجية لانطلق حديثا انفعاليا عاطفيا, بل ولا نقف عند حدود علاقاتنا السياسية بالمنظمات الفلسطينية المتغيرة بطبيعتها عبر الزمن, ولا نعول كثيرا علي ما يقال عن تضحيات مصرية من أجل فلسطين; فالدول لا تبعث بجيوشها لتقاتل إلا إذا كان ذلك دفاعا عن أمنها القومي, حتي وإن لزم الأمر ادعاء غير ذلك من أجل إثارة الحماس. الحديث عن العلاقة الاستراتيجية إذن ينبغي أن ينصرف فحسب إلي الثوابت. وعلي رأس تلك الثوابت الموضوعية الحقائق الجغرافية. إن حدودنا ستظل مشتركة مع غزة. كان الأمر كذلك ومازال وسيبقي. لن نترك أرضنا ولاهم تاركوها. قد يتغير نظام الحكم لدينا, وقد يستمر الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية لفترة تطول أو تقصر, وقد يتحقق حلم أو وهم المصالحة الفلسطينية بين حماس بانتمائها الإخواني وبقية الفصائل السياسية الفلسطينية, وقد تتفاوت المواقف الفلسطينية والإسرائيلية حيالنا عبر الحدود; ولكن ستظل حدودنا المشتركة مع غزة حقيقة استراتيجية ثابتة. الحقيقة الاستراتيجية الثانية أن العلاقات المصرية الفلسطينية عبر الحدود المشتركة تشتبك بطرف ثالث هو إسرائيل التي تربطنا بها معاهدة سلام والتي تمتلك ترسانة نووية, والتي لا تخفي نياتها في السعي لتحقيق تصورها عن مستقبل للإقليم المحيط بها وهو تصور يقوم علي فكرة تبادل الأراضي من ناحية وعلي تديين الدول المحيطة بحيث يصبح وجود دولة يهودية أمرا مستساغا. الحقيقة الاستراتيجية الثالثة أن شبه جزيرة سيناء وقطاعها الشمالي تحديدا سوف يظل بمثابة أرض العمليات لتلك القوي جميعا; فعليها تتكثف المساعي الإسرائيلية لتنفيذ فكرة ما يسمي بتبادل الأراضي والتي تعني عمليا انتزاع جزء من سيناء من السلطة المركزية المصرية, ولا بأس في سبيل تحقيق هذا الهدف من تغطيته بشعارات مثل إعلان إمارة إسلامية في سيناء, وهو ما يتسق مع السعي لتديين المنطقة المحيطة بإسرائيل. لعل تلك الحقائق تفرض علينا أن نحدد لأنفسنا خيارا استراتيجيا يتمثل في الحفاظ علي وحدة التراب المصري; والتصدي لمحاولات إعادة تقسيم المنطقة علي أساس ديني وفقا للمخطط الأمريكي الإسرائيلي. ويقتضي ذلك الخيار إعادة النظر في علاقتنا بالشعب الفلسطيني بحيث نتحاشي الخلط بين السلطة الحاكمة في غزة أو حتي في الضفة وبين الشعب الفلسطيني, الذي مازال غالبية أبنائه يعيشون في الشتات, بحيث يستحيل وضع الفلسطينيين جميعا في سلة واحدة والتعامل معهم بغوغائية تتأرجح بين التقديس والتلويث, وأن نتمسك عوضا عن ذلك بمبدأ التمييز السياسي بين المواقف المتباينة للجماعات السياسية الفلسطينية; أي بين من يقفون بحسم في مواجهة مخططات التديين وإعادة ترسيم الحدود, ومن يتبنون تلك المخططات تحت أي من المسميات. لمزيد من مقالات د. قدري حفني