لا أستطيع أن أتجاوز تعليقات قرائي الكرام حول ما طرحته في مقالي الماضي النقد الذاتي والمصالحة الوطنية لأنهم كل بطريقته- ناقشوا عديدا من الموضوعات الخلافية, وبعضهم تجاوز التشخيص لكي يقترح حلولا فعالة لمواجهة الأزمة. ويمكن القول إن السؤال الرئيسي لدي الجميع- بلا استثناء يذكر- هو هل ما قامت به حركة تمرد من نجاحها في حشد الملايين للخروج إلي الميادين لإسقاط حكم الإخوان المسلمين, وانحياز القوات المسلحة لهذه الانتفاضة الشعبية كان ثورة أم كان انقلابا بحكم عزل الدكتور مرسي من منصبه كرئيس للجمهورية, وتولية رئيس المحكمة الدستورية العليا باعتباره رئيسا مؤقتا للجمهورية, وإعلان خريطة طريق واضحة المعالم تتضمن تعديل الدستور, وإجراء انتخابات برلمانية وانتخابات رئاسية في مدي زمني لا يتجاوز ثمانية أشهر. من الطبيعي أن تنقسم آراء القراء بين من يقطعون بأن ما حدث في30 يونيو هو انقلاب صريح علي الشرعية, وهؤلاء الذين ينفون ذلك ويقولون بل لقد كانت موجة ثورية جديدة- إن أردنا أن نتوخي الحذر في استخدام المصطلحات ولا نطلق عليها ثورة جديدة- قامت باسم الجماهير الحاشدة التي هي المعبرة عن الإرادة الشعبية التي أسقطت الدكتور مرسي باعتباره رئيسا لأنه خرج عن الشرعية. وهذا الخلاف لا يمكن حسمه نهائيا إلا بمراجعة بعض المفاهيم الذائعة وأهمها جميعا مفهوم الشرعية, الذي يتشبث به وإن كان من الناحية الشكلية الدستورية البحتة- قادة الإخوان المسلمين. الشرعية السياسية كما تقدمها أدبيات علم السياسة هي رضاء المحكومين عن نظام الحكم السائد, أو عن الحاكم ملكا كان أو رئيسا للجمهورية. فإذا انحسر هذا الرضاء نتيجة للأخطاء الجسيمة لنظام الحكم أو للحاكم أياكان- فلابد أن تسقط شرعيته. وهذا السقوط قد يكون نتيجة هبة شعبية ثورية كما حدث في30 يونيو, أو بانقلاب صريح. ولو تأملنا الموقف بهدوء لأدركنا أن التمسك الشكلي بالشرعية الذي أصرت عليه جماعة الإخوان المسلمين كان هو سبب الفشل التاريخي الذي منيت به. وذلك لأن الجماعة ظنت وهما أنها مادامت قد حصلت علي الأكثرية في مجلسي الشعب والشوري مع حزب النور السلفي, فإن من حقها أن تشرع كما تشاء حتي لو كانت هذه التشريعات ضارة بفئات سياسية بعينها, وفي بعض الأحيان ضارة بمصلحة الوطن. وغاب عن قادة الجماعة أنه لا ديمقراطية بغير توافق سياسي كما صرح الشيخ راشد الغنوشي زعيم حزب النهضة الإسلامي في تونس, وذلك في ندوته التي عقدت بالأهرام منذ أسابيع قليلة. بمعني أن أي حزب سياسي حتي لو حصل علي الأغلبية في الانتخابات- ليس من حقه أن ينفرد باتخاذ القرارات الكبري بغير مشاورات جادة مع أحزاب المعارضة. وأخطر من ذلك كله طريقة ممارسة رئيس الجمهورية لسلطاته بعد نجاحه في الانتخابات الرئاسية. هناك عرف دستوري مستقر في أعرق البلاد الديمقراطية وهو أن المرشح الذي نجح في الانتخابات وأصبح رئيسا بحصوله علي50%+1 كما تقضي المعايير الديمقراطية الشكلية, ليس من حقه في اتخاذ القرار أن يمارس السلطة وكأنه ديكتاتور مطلق السراح استنادا إلي الشرعية السياسية التي أوصلته إلي المنصب. ولكن هذا ما حدث للأسف في ممارسة الدكتور محمد مرسي للرئاسة, فقد أصدر عديدا من التشريعات المعيبة التي ألغتها المحاكم, وأخطر من ذلك أنه أصدر الإعلان الدستوري الذي منح فيه نفسه سلطات مطلقة. وليس هكذا تمارس الشرعية في أي بلد ديمقراطي معاصر. وبغض النظر عن تشخيص ما حدث وما أدي إليه من موجة ثورية خرجت لإسقاط حكم جماعة الإخوان المسلمين, فإن الموقف اليوم بعد ما حدث يشير إلي مشهد انقسامي لم يحدث قط في التاريخ السياسي المصري. وذلك لأن تأمل ظاهرة توزع الجماهير المؤيدة للموجة الثورية والجماهير الرافضة لها في الميادين المختلفة بكل ما يدور فيها من شحن جماهيري وهتافات زاعقة ومطالب يستحيل تحقيقها, تجعلنا نقرر بكل وضوح أن الوطن العزيز الذي يظلنا جميعا في خطر شديد, وأن الدولة ذاتها مهددة بالانهيار, إن لم يتم تجسير الفجوة بين الجماهير الثائرة والرافضة لحكم الإخوان المستبد وبين أعضاء الجماعة الذين خرجوا يمارسون العنف باسم الدفاع عن الشرعية, مع أنها بحكم الممارسة شرعية منقوصة تآكلت مع استمرار الأخطاء القاتلة التي ارتكبتها القيادات الإخوانية سواء منها التي مارست الحكم مباشرة أو مارسته من وراء ستار. وقد بلغ الشطط بقادة جماعة الإخوان مداه برفضهم المطلق للإرادة الشعبية التي عبرت عن نفسها في30 يونيو وبدلا من ممارسة النقد الذاتي بكل شجاعة لتلافي الأخطاء الجسيمة في الممارسة التي أثرت بالفعل علي صورة الجماعة في أذهان الشعب, اندفع قادتها للتحريض علي القوات المسلحة التي بدعمها لموجة30 يونيو حمت البلاد من انشقاق خطير كان جديرا بتفكيك المجتمع. وحين تأملت تعليقات قرائي الكرام وجدت بعضهم بغض النظر عن الموافقين والمعترضين- تجاوز شكله تشخيص ما حدث, وانطلق إلي آفاق صياغة حلول مقترحة للخروج من المأزق التاريخي الذي تمر فيه بلادنا الآن. وقد لفت نظري بشدة تعليق الدكتور أحمد الجيوشي النقدي في قوله إننا نفتقر إلي المعايير والمرجعيات, ونبدل مواقفنا حسب موقفنا من السلطة والمعارضة. وأحسب أن هذه الملاحظة ينبغي أن نتوقف أمامها طويلا, لأن المرجعيات الديمقراطية التقليدية وفي مقدمتها مفهوم الشرعية الدستورية تحتاج إلي مراجعة جذرية. وإلا أصبح من حق أي حزب سياسي حصل علي الأكثرية في الانتخابات أن يمارس ما يعرف بديكتاتورية الأغلبية, أو أي رئيس يحصل علي نسبة50%+1 من حقه أن يمارس الحكم المطلق بلا ضوابط دستورية أو قانونية. وحتي نخرج من النفق المظلم تصدي الأستاذ ماهر زريق لتقديم حل متكامل للأزمة يتكون من أربع خطوات متكاملة. وأولها صياغة رؤية واضحة ومقنعة تتناول أبعاد النهضة( اقتصادياوسياسيا واجتماعيا وثقافيا), وهي التي دعونا لها منذ زمن بعيد حين تحدثنا عن ضرورة صياغة رؤية استراتيجيةStrategicvision تصوغ السياسات للعشرين عاما المقبلة. ويشير الأستاذ زريق إلي نقطة مهمة هي أن هذه الرؤية ينبغي أن تكون مقنعة للمواطنين, بحيث يجد كل مواطن دوره فيها ويتحدد في نفس الوقت الفوائد المشروعة التي سيجنيها حين تتحقق. والخطوة الثانية هي الاعتماد علي طائفة متنوعة من الخبرات التي ينبغي البحث عنها وفق خطة متكاملة سواء بين خبراء الدخل أو المقيمين في الخارج, والخطوة الثالثة اكتساب الخبرة اللازمة في مجال إدارة الأزمات التي يتوقع أن تتكاثر ونحن ننتقل من التخلف إلي التقدم, وأخيرا أهمية التواصل الفعلي مع كل الفصائل السياسية وكل الفئات الاجتماعية بطريقة إيجابية حتي تكون العلاقة متبادلة بين المرسل والمستقبل. كل هذه اجتهادات مقدرة من قبل القراء الذين لم يكتفوا بممارسة النقد الذاتي ولكن تجاوزوه لاقتراح الحلول. لمزيد من مقالات السيد يسين