لو أن دولة ما في أوروبا أو أمريكا, تعرضت إلي هذا الكم من الضغوط السياسية, والتدخلات الخارجية في شئونها الداخلية, لأقامت الدنيا ولم تقعدها.. ولو أنها اكتشفت بعض القوي فيها تستقوي بالخارج, وتهدد سيادة الدولة, وتنال من سلامة القرار الوطني واستقلاله لقدمتهم إلي المحاكمة, مهما كانت الضغوط, والتهديدات!! بكل أسف, يحدث ذلك في مصر منذ سنوات طويلة, لكن حدة التدخلات الخارجية في الشأن الداخلي المصري زادت خلال العامين ونصف العام الماضي, ثم تفاقمت الضغوط عقب الإطاحة بالرئيس محمد مرسي لدرجة المطالبة بالإفراج عنه, وعدم ملاحقة رموزه المتورطين في قضايا عديدة تمس السيادة الوطنية, وتنال من استقلال البلاد, وانتهاء بالاعتداء علي المنشآت العسكرية, والممتلكات العامة بالتحريض علي قتل المتظاهرين. الأعراف الدبلوماسية وبشكل عام- والكلام للمفكر السياسي والدبلوماسي الشهير الدكتور مصطفي الفقي- فإننا نجد بين الحين والآخر صورا من التدخل في شئون الدول بدعوي حماية الديمقراطية, والدفاع عن حقوق الإنسان, وصولا إلي التدخل بدعوي حماية البيئة.. لكن في أحيان أخري يتم التدخل في أمور وتفاصيل دقيقة تتعلق بالأمور السياسية, مشيرا إلي أن تدخل سفير أي دولة في الشأن الداخلي للدولة التي يعمل بها يمثل تجاوزا للأعراف الدبلوماسية, فمهمته الأساسية أن يكون همزة وصل أو اتصال بين دولته والدولة التي يعمل بها, لا أن يكون طرفا في الصراع السياسي. ومن سمات هذا العصر, أن الولاياتالمتحدةالأمريكية قد اعتادت علي أن تدس أنفها في الشئون الداخلية للدول, وعلي هذه الدول أن تعتاد علي ذلك, وأن تتعامل معه بحكمة وروية, وقراءة عميقة للاحداث المحيطة, مؤكدا أن السفيرة الأمريكية آن باترسون تتصور أن مصر مثل باكستان, وأن ما فعلته هناك يمكن أن تفعله في مصر, وهو أمر مستحيل الحدوث, فمصر بلد الكفاءات العلمية والفكرية, وهي دولة المؤسسات القوية, كما أنها دولة بحر متوسطية, وليس من السهل تكرار التجربة الباكستانية بها. السيادة واستقلال القرار وبشكل عام, فإن سيادة الدول واستقلال قرارها الوطني- والكلام هنا للمستشار محمد حامد الجمل رئيس مجلس الدولة الأسبق- يرتبط بقدرتها الاقتصادية( قوتها الناعمة) وقدرتها العسكرية( قوتها الخشنة)ومن ثم تقوم العلاقات بين الدول علي مبدأ المصالح والقوة, وكما هو معروف فإن من لا يملك اقتصادا قويا, وقوة عسكرية متطورة, لا يملك قراره, ومن هنا تأتي الضغوط الخارجية في الشئون الداخلية المصرية نتيجة للضعف العام الذي تشهده الدولة من ناحية, ثم تراجع اقتصادها, وعجزها عن تدبير احتياجاتها المعيشية المختلفة, ناهيك عن الصراعات السياسية, ومحاولات البعض للاستقواء بالخارج, مما يضعف السيادة الوطنية ويؤثر علي استقلالية القرار الوطني, ولذلك يأتي التلويح بقطع المعونة العسكرية, والتهديد بوقف القروض والأنشطة الاقتصادية, وغيرها من الضغوط التي تمارسها الدول القوية اقتصاديا وعسكريا, ضمانا لتحقيق مصالحها. علي ذلك فإن السيادة والقرار المستقل, يتطلب إرادة وطنية مستقلة لدي السلطة الحاكمة, بحيث ترفض الإملاءات الخارجية, بالاعتماد علي الذات, ودفع عجلة الانتاج, وتنشيط السياحة, وجذب الاستثمارات الأجنبية والمحلية. المندوب السامي الأمريكي ذلك التدخل السافر في الشئون الداخلية المصرية, عبر عنه الكاتب الصحفي عبد الناصر سلامة رئيس تحرير الأهرام في مقاله بالصحيفة أخيرا تحت عنوان المندوب السامي الأمريكي, الذي تحدث فيه عما يجري الآن علي الساحة السياسية الداخلية, الذي وصل إلي درجة الضغط علي القوي المختلفة للقبول بأوضاع ما أو بأشخاص ما أو فصائل ما, لحكم مصر, وهو التدخل الذي بدا واضحا منذ25 يناير2011 وما قبله, واستمر حتي الآن في صور وأشكال عديدة, مشيرا إلي أن الأعين كانت مسلطة طوال العامين ونصف العام الماضي علي السفارة الأمريكية, كما كانت الآذان تنصت بإمعان إلي ما يصدر عن واشنطن, علي اعتبار أن هذه وتلك هما مؤشر البوصلة المصرية, ومن خلالهما يمكن أن نفهم إلي أي اتجاه تسير الأوضاع؟! وبالفعل- والكلام لرئيس تحرير الأهرام- كان رصد زيارة قيادات الإخوان المسلمين إلي السفارة في بداية الثورة, ثم سفرهم إلي واشنطن مؤشرا علي أن هناك أمرا ما يحدث علي الساحة, وقد كان ذلك صحيحا, والآن نرصد ذلك الموقف الأمريكي المتردد تجاه كل شيء في مصر, الذي بلغ حد الضغط الشديد علي أحد الأحزاب للقبول بشخص ما رئيسا للحكومة المرتقبة, وضغوط أخري علي جهات سيادية, في أمور أخري, ناهيك عن الدعوة التي وجهتها السفارة الأمريكية في مصر, لبعض الشخصيات للترشح للانتخابات الرئاسية السابقة, كما أن سفارات أخري أمريكية في عدة عواصم قد استدعت بعض القيادات السياسية التي كانت موجودة هناك, آنذاك, وطلبت منهم الطلب نفسه, ومنهم من وافق, ومنهم من اعتذر, ومنهم من طلب فرصة للدراسة. هكذا تحدث رئيس تحرير الأهرام عن التدخل الصارخ في شئون مصر الداخلية, وانتهاك السيادة الوطنية, الأمر الذي استنكرته العديد من الأحزاب, والقوي السياسية, والحركات الثورية المصرية أيضا, والتي أعلنت رفضها القاطع للتدخل الأمريكي في الشئون الداخلية المصرية, وبلغ الغضب مداه إلي حد المطالبة بطرد السفيرة الأمريكية, والاستغناء عن المعونة الأمريكية من خلال تدبير موارد مالية, ومصادر اقتصادية جديدة. ضغوط مرفوضة ومن حيث المبدأ, يرفض الناشط السياسي والبرلماني السابق أبو العز الحريري أي تدخل في شئون الدول مهما كان مبرره وصوره, مؤكدا أنه لا يحق لأي دولة التدخل في الشئون الداخلية لأي دولة أخري.. لكن الواقع يقول إن الإدارة المصرية قد فرطت في السيادة الوطنية بالنسبة التي حددها الرئيس الراحل أنور السادات, وسار عليها الرئيس المخلوع حسني مبارك, وهي تتسم بالتفريط الكامل, وقد تجسد هذا التفريط ماديا في اتفاقية كامب ديفيد التي ترتب عليها التفريط في استقلال مصر السياسي والاقتصادي, والاجتماعي, مثلما تم التفريط في السيادة علي الأراضي المصرية من خلال نصوص اتفاقية كامب ديفيد وتطبيقاتها علي أرض الواقع. ولذلك لا غرابة من تصرفات وتحركات, آن باترسون السفيرة الأمريكية بالقاهرة أو ما يمكن أن نطلق عليه المندوب السامي الأمريكي علي غرار المندوب السامي البريطاني الذي كان موجودا وقت الاستعمار البريطاني.. مقابلات تجري باستمرار بين السفيرة الأمريكية مع الجميع في مصر, حكومة ومعارضة.. ومنها ما هو معلن, ومنها ما هو سري.. يضاف علي ذلك التنسيق بين جماعة الاخوان والولاياتالمتحدةالأمريكية قبل تولي الحكم في مصر ومن بعد رحيلهم عنه, كما تجلت تلك العلاقات عبر زيارات باترسون لقيادت الإخوان, سواء بمفردها أو بصحبة مسئولين أمريكيين, علي رأسهم جون ماكين, ثم وليام بيرنز, والتقت الدكتور محمد بديع المرشد العام للإخوان المسلمين, كما زارت مسئولين كبارا أثناء نظر قضية التمويل الأجنبي, الأمر الذي وصفته القوي السياسية والثورية بأنه تدخل سافر في الشئون الداخلية المصرية. سقوط نظرية السيادة المطلقة العالم أصبح قرية صغيرة.. هكذا قال لنا الدكتور محمد الجوادي المفكر السياسي- كما أنه يعيش مرحلة جديدة ومختلفة من الفكر, ومن ثم لا يوجد- في رأيي- ما يسمي بانتهاك السيادة الوطنية لدولة من الدول, فقد انتهت فكرة السيادة المطلقة للدول منذ40 عاما علي الأقل, بل إن روح ميثاق الأممالمتحدة الذي تمت صياغته في عام1945 تعكس أن مفهوما مؤداه أن الدول جميعا بمثابة دولة واحدة, وأن هناك شيئا يجمع هذه الدول ويجعلها كأنها دولة واحدة, ويبدو ذلك من اسم هذه المنظمة الدولية علي غرار المملكة المتحدة أو الولاياتالمتحدةالأمريكية.. ومن ثم فإن الذين يهاجمون ما يسمونه بالتدخل الأوروبي يتجاوزون في حق النظام الدولي الذي وقعته مصر ممثلة في عبد الحميد بدوي باشا, وإبراهيم عبد الهادي باشا, ضمن نحو40 دولة أسست الأممالمتحدة في سان فرانسيسكو عام1945, مشيرا إلي أن المادتين السادسة والسابعة من الميثاق, تنصان علي الإجراءات التي يحق لجميع الدول بمقتضاها التدخل في شئون الدول التي وافقت علي الانضمام إلي هذه المنظومة, وعلي ذلك, فإنه لا محل للحديث عن تجاوز في التدخل إذا كنا نؤمن بأننا نعيش في مجتمع دولي, حتي من قبل عصر العولمة.