عندما نسمع أو نقرأ عن سيدات الأسر المالكة أوالثرية فلابد أن يتبادر إلي الأذهان ماينفقنه من أموال طائلة علي مايحقق لهن متع الدنيا من اقتناء أفخر الثياب وأندر المجوهرات وأغلي العطور وأدوات التجميل وغيرها ولكن زبيدة بنت جعفر المنصور زوجة هارون الرشيد كانت علي العكس من ذلك تماما رغم امتلاكها للمال والجاه, فهي زوجة خليفة وبنت خليفة وأم خليفة.. جدها هو الخليفة المنصور وكان يؤثرها بقلبه ويخصها بحبه, وسماها زبيدة لما رأي من بضاضتها ونعومتها, وكانت ذكية, كريمة, نبيلة الخلق, وقد ذكر الرواه أنها بذلت الكثير من أموالها في طاعة الله, فبنت المساجد والمنازل التي ينزل فيها الغرباء, وحفرت الآبار ليشرب منها الذين يعبرون ويمرون من حولها, لأن الحجاح كانوا يحملون الماء معهم, ومن أهم هذه الآبار عين زبيدة التي أصبحت تروي أهل مكة والحجيج, ويحكون أنها أجرت نهرا بين شعاب مكة من العيون. لقد أنفقت زبيدة في سبيل ذلك جواهرها ومالها, حتي عظم الأمر علي خازن المال, وكأنه أراد ان يتوقف, فقالت له كلمتها الخالدة: اعمل ولو كلفتك ضربة الفأس دينارا, وأصبحت عين زبيدة ذكري لها وأثرا صالحا تغني دونه الآثار, كما أسست مطاعما للفقراء, وكانت تنفق قرابة المليونين من الدنانير لإطعامهم في الأماكن التي أعدتها لذلك. ولأنها- بحكم وضعها الاجتماعي- كان لها الكثير من الجواري الذين بلغ عددهن حوالي مائة جارية, فقد قامت بتحفيظهن القرآن عن ظهر قلب, وجعلت لكل واحدة منهن ورد تقرؤه كل يوم, بحيث لاتمضي ساعة إلا وفي بيتها قرآن يتلي, وكان يسمع في قصرها القرآن كدوي النحل, كما كان لها مجلس علماء تناقشهم في المسائل العلمية, مما يدل علي رجاحة عقلها وبعد نظرها, وكانت تقصد بهذه المناقشات نشر العلم وتقدير أهل الفضل. وخير دليل علي سمو أخلاق زبيدة كلمتها التي ذ كرها التاريخ عندما أوصت علي بن عبس حين خرج من عند ولدها الأمين قائدا للجيش لقتال أخيه المأمون وهوابن ضرتها فقالت يا علي.. إن أميرالمؤمنين وإن كان ولدي فإني علي عبدالله المأمون متعطفة لما يحدث عليه من مكروه( أذي), وانما ولي ملك نافس أخاه في سلطانه.. فاعرف لعبد الله حق ولادته وأخوته, ولاتجابهه بالكلام فإنك لست نظيرا له, ولاتقتسره اقتسار العبيد, ولاتوهنه بقيد أوغل, ولا تمنع عنه جارية أو خادمة, ولاتعنف عليه في السير, ولاتركب قبله, وخذ بركابه إذا ركب, إن شتمت فاحتمل منه. هذه وصية لقائد الجند الذي خرج لملاقاة عدو ابنها.. فما أجمل ما بها من أدب وخلق ومعرفة أقدار الناس وإنزالهم منازلهم, رحم الله زبيدة رحمة واسعة وأسكنها فسيح جناته.