لم تمهل الأحداث السياسية المتلاحقة والصاخبة التاريخ ليمضي في مساره المعتاد والتقليدي نحو نهاية القرن العشرين. ذلك أن الثورات الديمقراطية التي اندلعت في أوروبا الشرقية عام1985 ضد النظم الشمولية والاستبدادية عجلت بنهاية القرن العشرين, وبزوغ مبكر للقرن الحادي والعشرين. وكان هذا المعني تحديدا ما ركز عليه, وبلور أبعاده المؤرخ والمفكر البريطاني المرموق إريك هوبسبوم في كتاب القرن الجديد ووصف القرن العشرين بالقرن القصير زمنيا, وأوضح أنه القرن الذي بدأ عنيفا ودمويا باشتعال الحرب العالمية الأولي عام1914, لكنه لم يكمل مسيرته بسبب انهيار الاتحاد السوفيتي في ديسمبر.1991 ويشير المؤرخ والمفكر الي أن ثورات أوروبا الشرقية المناهضة للحكم الشمولي والشيوعي, وهيمنة الاتحاد السوفيتي علي مصائرها, والتي بلغت ذروتها في9 نوفمبر1989 بانهيار سور برلين, واكتملت حلقاتها بانهيار الاتحاد السوفيتي كانت العامل الفعال والمؤثر في البداية المبكرة للقرن الحادي والعشرين. غير أن هذه البداية المبكرة انطوت علي متغيرات جامحة في التوجهات السياسية الأمريكية والأوروبية, بدأت مؤشراتها عام1991, ففي ذاك العام انطلقت من أمريكا نظريتان جديدتان, كان لهما تأثيرات فكرية وسياسية علي مجريات الأحداث التي تعاقبت بسبب زلزال الانهيار السوفيتي. أولاهما: نظرية نهاية التاريخ المثيرة للجدل, التي طرحها الباحث والمفكر الأمريكي من أصل ياباني فرانسيس فوكوياما, وادعي فيها أن التاريخ قد بلغ محطته الأخيرة بانتصار الليبرالية والرأسمالية, واندحار الشيوعية. وثانيتهما: نظرية صراع الحضارات والثقافات للباحث والمفكر الأمريكي صامويل هنتنجتون, وحذر فيها من أن انتصار أمريكا وأوروبا علي العدو الأحمر الشيوعي, يفسح المجال لظهور العدو الأخضر, أي الإسلام, وأشار الي أن هذا من شأنه تفجر موجة عاتية آتية من صراع الثقافات وتصادم الحضارات. ولوحت عواصم الحضارة الأوروبية براية نهاية التاريخ, بينما شرعت في التأهب لخوض غمار صراع الحضارات والثقافات مع العدو الجديد. {{{ ووسط هذه الأجواء التي تتسم بالتربص والتحريض, اندلعت أولي ارهاصات تصادم الحضارات والثقافات في منطقة البلقان بقلب أوروبا, وهو ما حدث في حرب الإبادة العرقية ضد أهل البوسنة المسلمين, فعقب تشرذم يوجوسلافيا, وتقوض أركانها وانفراط عقد جمهورياتها, هيمن سلوبودان ميلوسوفيتش رئيس صربيا علي مسرح الأحداث, وشن عام1992 حربا همجية ضد البوسنة, وهي حرب استمرت حتي.1995 وقد استهل ميلوسوفيتش هذه الحرب بمشهد مسرحي مزق خلاله بطاقة عضويته بالحزب الشيوعي, وصار قوميا متطرفا, واستدعي القومية الصربية من سباتها التاريخي العميق في محاولة لإحيائها عبر الثأر من الهزيمة التي ألحقها جنود الامبراطورية العثمانية بصربيا, وقتل الأمير لازار في موقعة كوسوفا. وأوضح ميلوسوفيتش عن اعتزامه محو البوسنة وعدم رفع العلم الأخضر في قلب أوروبا, وصور لزعماء العواصمالغربية أن الحرب لن تستغرق زمنا طويلا. غير أن صمود أهل البوسنة أذهل الجميع, وكشف تواطؤ زعماء أوروبا مع صربيا, فقد اكتفي هؤلاء الزعماء بإطلاق تصريحات جوفاء, بينما تقاعسوا عن اتخاذ أي إجراءات لوقف الحرب الوحشية. ولم تبد أمريكا أي اهتمام يذكر بالتدخل لوقف الحرب, ويعلل ذلك الموقف الأمريكي كاتبان بريطانيان هما لورا سيلبر وآلان ليتل في كتابهما المهم يوجوسلافيا.. موت أمة بالاعتبارات التالية.. ان يوجوسلافيا فقدت أهميتها الاستراتيجية بالنسبة لأمريكا بسبب انهيار حلف وارسو, في طوفان الانهيار السوفيتي والكتلة التي كان يهيمن عليها. انشغال أمريكا بحرب الخليج الثانية, ومراقبة ما يجري في الجمهوريات التي استقلت بعد الانهيار السوفيتي. ويشير الكاتبان الي تصريح لجيمس بيكر وزير خارجية أمريكا في إدارة جورج بوش الأب, يقول فيه: إن الولاياتالمتحدة لا ناقة لها ولا جمل في هذه الحرب. غير أن أمريكا أقدمت إبان رئاسة بيل كلينتون علي بذل جهود دبلوماسية لتسوية سلمية في البوسنة, وكان الدافع لذلك أن كلينتون كان يسعي لإعادة ترشحه لفترة رئاسية ثانية, ومن ثم عمل علي الفوز بنصر دبلوماسي يعزز فرص نجاحه في الانتخابات الرئاسية, وذلك علي حد رؤية الكاتبين البريطانيين. وقد تمكنت أمريكا بالفعل من التوصل الي تسوية سلمية للحرب في البوسنة, فيما يعرف باتفاق دايتون عام.1995 وهنا تجدر الإشارة الي أنه في الوقت الذي تخاذل فيه المسئولون في أوروبا تجاه حرب الإبادة في البوسنة, كانت نخبة متميزة من المفكرين والفنانين الأوروبيين والأمريكيين يعربون عن تأييدهم لأهل البوسنة, ولعل من أبرزهم الكاتبة الأمريكية اللامعة سوزان سونتاج, فقد أمضت وقتا طويلا مع أهل سراييفو عاصمة البوسنة, وكابدت معاناتهم, ونددت بالسياسات الأوروبية والأمريكية التي كانت تتجاهل المذابح الوحشية التي يتعرض لها المسلمون في البوسنة. {{{ المثير للدهشة, أن فتاة أمريكية لم تكن قد تجاوزت السابعة عشرة من عمرها وقت اندلاع حرب الإبادة ضد أهل البوسنة, لم تسقط من ذاكرتها هذه الحرب, وقالت عنها أخيرا إنها حرب جيلنا. ولعل الأكثر دهشة أن هذه الفتاة التي تبلغ الآن السادسة والثلاثين من عمرها هي الممثلة الأمريكية الشهيرة إنجلينا جولي, التي تحتفي بها هذه الأيام الدوائر الفنية والثقافية بمناسبة بدء عرض فيلمها الجديد في أرض الدم والعسل, وتدور وقائعه حول حرب الإبادة العرقية ضد البوسنة. ولكن انجلينا جولي أو إنجي كما يطلق عليها الأصدقاء ليست بطلة الفيلم, وانما مخرجته, فيما يعتبر أول تجربة لها في فن الاخراج السينمائي. وتتمحور فكرة الفيلم حول قصة حب إبان اشتعال الحرب, وتصور ضابطا من قوات صربيا التقي بفتاة بوسنية كان يكن لها حبا, في معسكر اعتقال, ويسرد الفيلم من خلالهما أبعاد حرب الإبادة البوسنية. واللافت للانتباه أن صحفية شهيرة هي كريستين أمانبور كانت تغطي أنباء الحرب لشبكة التليفزيون الأمريكية سي.إن.إن أكدت أن الفيلم يتسم بالشجاعة والجدية. وفي ذات الوقت, ذكرت خديجة محمد, رئيسة جمعية أمهات ضحايا مذبحة سربرنيتشا, التي راح ضحيتها نحو ثمانية آلاف من المسلمين علي أيدي قوات صربيا, أن الفيلم موضوعي, وصادق. واللافت للانتباه, أن انجلينا جولي كتبت قصة الفيلم وتولت اخراجه, وساهمت في تمويله, وتشير الي أنها قرأت العديد من الكتب عن حرب البوسنة, كما أجرت حوارات مع الأطراف التي كانت ضالعة فيها, والتقت بالدبلوماسي الأمريكي ريتشارد هولبروك الذي أشرف علي المفاوضات التي أسفرت عن اتفاق دايتون للسلام في البوسنة في ديسمبر.1995 وعندما انتهت انجلينا من اخراج فيلم في أرض الدم والعسل قالت إن فيلمها القادم سوف يدور حول الغزو الأمريكي لأفغانستان. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي