يداوي الأجساد المريضة بلمسة يده الحانية التي تشخص العضال من الداء, قبل أن تشخصها الآلات الجامدة, يطبب الجراح المثخنة بلسانه الحلو العذب, وكلماته الرقراقة المطمئنة, قبل مشرطه الماضي, ومبضعه البتار, يشفي الأعضاء المعتلة بسكينته المعهودة, ووقاره المهيب, قبل أن يشفيها بجراحاته الحاسمة, وأدويته الناجعة. وقد سمعت بأذني الألسنة التي تلهج بالدعاء له, والثناء عليه, والدعوة له بالصحة وطول العمر. فمن ذا الذي يصدق أن هذا الطبيب, الجراح العالمي, وزير الصحة الأسبق, الذي تدرس كتبه وأبحاثه في كليات الطب. لم يفارق مشرط الجراح يده حتي الآن, ولم يمنعه التقدم في السن متعه الله بالصحة والعافية من إثراء الحياة الطبية, والعلمية, والاجتماعية في مصر.. المشرط- كما يقول- لم ولن يفارق يده, مادام هناك مريض يحتاج إليه, ومادام فيه قلب ينبض, ونفس يتردد. في أثناء الحوار, لمعت عيناه بالدموع أكثر من مرة, وكان صوته يتهدج بالبكاء, حزنا علي ما آلت إليه الأمور في مصر, ولكنه كان يغالب دموعه بالصفح بوجهه حتي لا نراه في هذه الحالة, وكان يقاوم تهدج صوته بالبكاء بالصمت برهة, ثم يعاود الحديث. بماذا تشخص الأمراض التي تعانيها مصر الآن؟ الأمراض السياسية مستعصية لعدة أسباب, منها أننا خارجون من ثورة, والثورات بطبيعتها تبتدئ بقلق, وسيستمر القلق, وقد يحدث انهيار, أو يحدث تحسن. حتي الآن, لا نعرف إن كنا في انهيار, أو في تحسن. الثورات كموج البحر, موج من فوقه موج, فهناك موج كتسونامي عنيف, وهناك موج خفيف ظريف. إن حال مصر الآن أشبه بلعبة الكوتشينة, حيث يداري الواحد أوراقه عن الآخر, وأصبح البعض يخون الكل, ولا تعرف إلي أين يصير المجموع, فياليت كل واحد يفصح عما يريده. نحن كأمة ضاعت هويتها, لا هي عربية, أو إسلامية, أو إفريقية, أو عالمية, لأننا تشرذمنا وتبعثرنا, كل يبحث عن طريقه, وأقحمنا الدين في هذا كله بلا سبب. ولأن مصر من كبري الدول تدينا علي مدي التاريخ, فهي رحلة ضياع وجهل, المخلص فيها يرجو أن يغمض عينيه ويفتحهما, ويري مصر متقدمة وفي ازدهار, للأسف الشديد هذا غير واضح. أيام الاستعمار, تربينا علي حب مصر لنخرجها من فم المستعمر, لدرجة أننا كنا علي استعداد لأن نجود بأنفسنا وأرواحنا في سبيلها. فلما ذهب الاستعمار, هانت مصر علينا, للأسف الشديد, ولم تبق هي روحنا المغتصبة, ولم نعطها حقها. أما بالنسبة للثورة, فلي تعليق عليها, هو أن أولادها لم يعرفوا أن يلملموا شتات بعضهم, فليس لهم هدف محدد, ولم يثقوا في أحد, كي يجعلوه قائدا لهم, فتحولت إلي ثورة دون هدف, وتشعبت في آخر أيامها إلي360 فصيلا. وبعد فترة, دخل الثوار في طور من الغرور, والجرأة علي الأجيال التي سبقتهم, فاختلفوا واختفوا للأسف الشديد, لكن منهم بقايا جيدة, ولم يفصحوا عن أنفسهم, وحاول البعض تشويههم: هل هم نتاج كلام كونداليزا رايس بأن الثورة هي الضياع ثم البناء أم لا, فتوقفنا عند الضياع للأسف, ولم نبن. وعندما نجح الرئيس محمد مرسي في الانتخابات الرئاسية, وقع بين المطرقة والسندان, مطرقة المسئولية, وسندان السياسة. وحين صدر الإعلان الدستوري, لم أنم ليلتها, ولم يغمض لي جفن, ولم يهدأ لي بال, وانتظرت حتي الصباح, ونزلت هائما علي وجهي أبحث عن شخص وثيق الصلة بالإخوان, فقصدت الأستاذ فريد عبد الخالق, أباهم الروحي, الذي ربي معظم الإخوان, لكي يوصل صوتي إليهم, ويقوم بنصيحتهم. لقد أصبح حالنا في مصر الآن أننا لا يعرف بعضنا بعضا, ولو عرف بعضنا يعضا لا نتحاور, ولو تحاورنا لا نتفق, وعندما لا نتفق, نخبط في بعض.. هذه سمة مصرية. أنا لا أخطئ الرئيس, ولكن أخطئ مستشاريه, الذين أوقعوه في خصومة مع القضاء, فالفريق الاستشاري الذي يعمل مع الرئيس لم يحسن النصيحة إليه, ولم ينعم الله عليه بخادم مخلص, وناصح أمين, وعالم رشيد. إن احتياج النصيحة ينحصر في ثلاثة أمور: مجموعة سياسية, ومجموعة اقتصادية, ومجموعة أمنية. والمستشارون الذين انسحبوا من الفريق السياسي عدوا أعداء, وما حدث مع د. سمير مرقس بسحب جواز سفره الدبلوماسي دليل علي قلة الخبرة واللياقة. كيف تلتقي القوي السياسية والفرقاء السياسيون علي كلمة سواء؟ إذا لم يلتقوا, فسيظهر من يقضي عليهم, شخص مجنون يري مصر تتجه إلي الحضيض, وتذهب إلي الهاوية, سيمسك مدفعا, وينسف الدنيا كلها وينتحر, لو لم يلتق هؤلاء علي كلمة سواء. فأناشدهم: اتقوا الله يا ناس, اتقوا الله يا ناس: ضعوا أيديكم في أيدي بعض, مصر تضيع. لقد حل الناس محل القانون, وأصبحوا ينفذونه بأيديهم بحجة تحدي القانون, فمن لا يعجبه مجرم يقتله ويعلقه في شجرة.. هذه بداية الخراب. رسالة توجهها للمعارضة ولأهل الحكم؟ اتقوا الله في مصر, فهناك38 مليون مواطن تحت خط الفقر, و1000 قرية تحت خط الفقر في11 محافظة, تسع منها في الوجه القبلي, والشرقية والبحيرة في الوجه البحري, تمتلئ بالعشوائيات, وهناك1221 منطقة عشوائية علي مستوي القطر المصري, استطاعت الحكومة أن تصلح منها21, وباق1200, نسبة الأمية27%, يضاف إليها14% ارتدادا, تحت خط الفقر40%. ما رأيك في الأداء الإعلامي وسر الهجوم الدائم عليه؟ لقد قال أحد الأئمة رحم الله من أراني خطئي, فالإعلام يبصر بالأخطاء, ويدق أجراس الإنذار, مجرد أن يوجه نظرك إلي خطأ موجود فهذه نعمة. فلو نظر إليه بهذه النظرة, ما تم التعامل معه بهذ الشكل.. فالعين المبصرة نعمة, والتحدي لا يليق. هل أنت مع إجراء انتخابات رئاسية مبكرة؟ طبعا لا, لا بد أن يأخذ الرئيس فرصته, ولكن أنصحه, بصفتي أستاذا جامعيا عجوزا, بأن ينزع العند من نفسه, فليس من مقامه أن يدفعوه إلي أن يتحمل رفض الإنتربول الدولي القبض علي أحمد شفيق, بدعوي تسييس محاكمته, فليس مقامه هذا. ياليتك تتذكر فاعف عنهم هو خير ل92 مليونا. بصفتك رئيسا للمجمع العلمي المصري الآن, ما الدور الذي يقوم به المجمع؟ المجمع كان هدفه المحافظة علي تاريخ مصر, والتراث العلمي الموجود من المخطوطات والذخائر, والنفائس. وقد كانت هناك محاولة لحرقه ثلاث مرات جديدة تكررت الشهر الماضي. للأسف الشديد, في الحادث الأول, تم حرق60 في المائة من الكتب التي كان يحويها المجمع, وقد تعهد أمير الشارقة بإعطائنا3000 كتاب عوضا مكررا عن التي تم حرقها, حيث إن لديه نسخة كاملة منها, ومشاركته كانت نورا في ظلام اليأس من عربي شريف, وقد ذهبت إلي باريس علي نفقتي الخاصة, وقابلت وزير الثقافة, ورئيس المجمع العلمي, ورئيسة المكتبة العلمية, حيث لم يكن عندنا بيان بالثروة الموجودة في المجمع العلمي من ذخائر ومخطوطات, وأتيت بهذا البيان محفوظا من فرنسا, فنحن دولة نامية, وعندنا أخطاء, لابد أن نتحملها. في الوقت الحالي, لا نستطيع أن نعمل أي شيء في ظل إغلاق شارع قصر العيني, وحالتنا في حاجة ملحة ليعود المجمع جزءا من رئاسة الدولة كما كان من1810 حتي سنة1956, كما أننا لا نستطيع أن نعين فراشا, أو حارسا, أو موظفا. من جهة أخري, كنت قد تحدثت مع معالي وزير العدل لأعرف إلي أي جهة يتبع المجمع العلمي. فحتي سنة1956, كان المجمع العلمي يتبع رئيس الدولة. ومنذ سنة1958 وحتي الآن, نحن ضياع الهواء, ونعيش علي التسول. كما أن هناك بشري, هي أنه من المفترض أن نقيم مجمعا علميا عربيا للعلوم, يجمع ويحدث نهضة بين مجموع الدول العربية, وقد تمادينا في توصيف المجمع العلمي ورسمه وتصميمه, وقد تفضل ووعد حاكم الشارقة- حفظه الله- بأن يتولي الإنشاء. ما هو السبيل إلي نهضة مصر علميا وفي مجال البحث العلمي؟ كنت رئيسا لأكاديمية البحث العلمي من سنة1980 وحتي.1984 في أول سنة, ذهبت إلي الهند, وحضرت إعلان أنديرا غاندي لسياسة الهند التكنولوجية( التي أوصلت الهند من سنة1980 إلي ما هي عليه حتي الآن). ولما عدت من الهند, جمعت300 عالم مصري, ما بين سياسيين, وأطباء, ومهندسين, وزراعيين, وإدارة واقتصاد, ومختلف التخصصات, وظللنا لمدة ثلاث سنوات نعمل بإخلاص, لكي نضع سياسة مصر التكنولوجية, من خلال مؤتمرات محلية ودولية, وكتبت في هذه المؤتمرات10 آلاف صفحة, في6 آلاف ساعة عمل, أعطيتها للسيد/ كمال حسن علي-وكان رئيسا للوزراء حينئذ- الذي وزعها علي كل وزارات الحكومة, ولكنه أقيل, فتوقف المشروع, لسوء الحظ, ووصلت إلي سن إحالتي للمعاش, ولا تزال أوراق هذا المشروع لدي حتي الآن. ما هي الدعائم والأسس التي تقوم عليها نهضة مصر العلمية؟ التعليم ابتداء من رياض الأطفال, والقضاء علي الأمية بأي شكل, قبل أن نفكر في المدرسة, ثم التعليم الأساسي, ألا تعلم أن التعليم الأساسي في أوروبا يمتد حتي الثانوية العامة؟. في فرنسا, يكتشفون العبقرية من الطفولة. وفي الهند, هناك أطفال في سن12 سنة يحملون الدكتوراه في الرياضة البحتة, فلا عجب أن يكون دخل الهند100 مليار دولار سنويا من المعلومات الرخوة( السوفت وير), ثم المفترض أن يأتي الطالب إلي الجامعة وهو يتقن كل وسائل العصر, كذلك الاهتمام بهيئة التدريس وتكوينها. وبداية رفعة التعليم تأتي من كليات التربية, التي لابد ألا يدخلها الحاصلون علي50%, ومادام مكتب التنسيق يتعامل معها علي أنها من كليات القاع, فلن يتقدم التعليم. أيضا, لابد أن تكون هناك هيئة للتربية العسكرية داخل كليات التربية, كما في بعض الدول لحقن الوطنية, وذلك لتعليم الانضباط والحزم. أخيرا, هل من روشتة تقدمها لمصر لعلاجها من أمراضها المزمنة وعللها المتوطنة؟ المرض المزمن الأول تتسبب فيه السياسة وتقلباتها, والمرض المتوطن هو اهتزاز قيمة المواطنة والوطنية, فلا بد أن تعود الوطنية, والذين يوجدون في الشارع الآن لا علاقة لهم بالوطنية, وهم موجهون, غالبيتهم أطفال شوارع صاروا تحت تأثير توجه, أو دواء. لذلك, لابد أن يتعلم الآباء والأمهات كيف يربون أولادهم علي حب الوطن. في سنة1977, ذهبت إلي إنجلترا, وزرت سجن الشباب, ووجدت أن مدير السجن أستاذ ورئيس قسم الأمراض النفسية في جامعة لندن, ورأيت كيف يتعاملون مع الأحداث والنزلاء, ويراقبون كل تصرفاتهم, ويتيحون لهم فرص العمل. وأخيرا أقول للساسة: غيروا ما في أنفسكم, حتي يغير الله ما بمصر, وتوقفوا عن العناد والمكابرة, ضعوا مصر أمامكم, فالتاريخ لن يرحمكم. لقد أعطتنا مصر الكثير, ولكنها لم تأخذ منا شيئا سوي الضياع حتي الآن.