كثيرا ما تتردد هذه المقولة كلما وقعت أحداث معينة تستدعي اثارة الوعي الوطني والتركيز علي وحدة الجماعة الوطنية, حيث تثار عادة تساؤلات عديدة يدور معظمها حول ماهية هذا الخطاب. ومدي تعبيره عن قيم معينة تمثل الأرضية المشتركة لجماعة وطنية تضم مسلمين وأقباطا, ودعونا في البداية نتفق علي مسلمة أولية ألا وهي: أن الادعاء بضعف الخطاب الديني, والاتهامات التي عادة ما تنسب إليه, باعتباره المسئول الأول إن لم يكن الأساسي عن مظاهر التطرف والمغالاة التي تهدد أمن المجتمع وتعصف بوحدته الوطنية, مثل هذا الادعاء يغيب عنه حقيقة أساسية ألا وهي: أن ضعف الخطاب الديني والاتهامات التي توجه له إنما هي محصلة طبيعية وانعكاس لمنظومة متكاملة من الضعف والانحدار الذي يعاني منه المجتمع في مجالات أخري عديدة فالخطاب أي خطاب هو انعكاس ومرآة لحال المجتمع فإذا انصلح حال المجتمع انصلح بالتبعية كل أنواع الخطاب التي هي منتج طبيعي لثقافة المجتمع, ولكن هل يعني ذلك أن الخطاب أي خطاب هو مفعول به وليس فاعلا بحال من الأحوال حقيقة الأمر أن الخطاب هو ناتج ومخرج للتفاعلات في المجتمع إلا أن هذا الناتج يعود مرة أخري ليمثل فاعلا أساسيا كأحد العوامل المؤثرة في كل التفاعلات داخل بنية المجتمع, فالخطاب الديني إذن: هو فاعل أساسي لتحريك; المجتمع, وهو أيضا أحد المنتجات الأساسية لثقافة المجتمع وذلك في عملية تفاعل مستمرة من التأثر والتأثير المتبادل. وعملية التجديد التي تعني بالأساس اصلاح مافسد من بنية هذا الخطاب, ورده إلي أصوله ومنابعه الأصيلة وإزالة ماعلق به من أفكار دخيلة تأخذه بعيدا عن جوهره الصحيح, هذه العملية المعروفة بالتجديد هي عملية مستمرة تفرضها طبيعة الحياة نفسها التي تمتلئ بالأحداث والمتغيرات التي تأتيه ليس فقط من البيئة المحلية المحيطة به ولكن أيضا من المناخ الدولي السائد. ولذلك فقد كان للتغيرات المعاصرة المرتبطة بالعولمة تأثيراتها علي هذا الخطاب وعلي كل العناصر المحيطة به, كذلك كان للثورة الحادثة في أساليب الاتصال وتكنولوجيا المعلومات والتي جعلت العالم بمثابة قرية واحدة تأثيراتها المباشرة علي إتاحة فرصة لم تكن متوفرة من قبل في الاستفادة مما وفرته الأساليب الحديثة في الاتصال لإمكان تعد هذا الخطاب وتعذر, إن لم يكن استحالة, توحيده أو السيطرة عليه, حيث أصبح من السهل دخول أفكار وافدة واتجاهات شتي وفرت لها التكنولوجيا الحديثة الذيوع والانتشار, فشاهدنا ظاهرة الفضائيات المتخصصة بأنواع شتي من هذا الخطاب, وصاحب ذلك أيضا ماعرف بظاهرة الدعاة الجدد الذين أصبحت لهم سوقا رائجة تمثلت أحيانا في شرائط الكاسيت وفي برامج تليفزيونية علي الفضائيات يكونون هم نجومها المطلوبين وفقا لقواعد السوق التي يحكمها العرض والطلب ويروج لها بأساليب الدعاية والإعلان. هذا فضلا عن عديد من المواقع الإلكترونية علي الشبكة الدولية للمعلومات( الإنترنت) التي تبث أنواعا متعددة من هذا الخطاب. نستطيع إذن القول إن التأثير الذي لحق بالخطاب الديني نتيجة للعولمة وللتقدم المذهل في أساليب الاتصال وتكنولوجيا المعلومات قد انعكس من خلال عمليتين أساسيتين أسميهما: التخصص, والتسليع فأما العملية الأولي المعروفة أيضا بالخصخصة فقد عنت بالأساس أن قيادة الوعي الديني أصبحت تابعة للملكية الخاصة, ولرؤوس الأموال التي تمولها وتوجه الخطاب الديني الذي يروج لها ومن ناحية أخري, فإن هذا الوضع قد أثر بدوره علي ما أسميه بتسليع الخطاب أي تحويله إلي سلعة استهلاكية تسري عليها قواعد السوق وقوانين العرض والطلب, ونظرا للحالة العامة للمجتمع التي تتسم بشيوع الأمية الصرفة, والأمية الثقافية, وانخفاض مستوي المعيشة للغالبية العظمي من المجتمع, مع وجود فوارق حادة بين الأفراد سواء في الدخل أو مستوي التعليم, فقد أصبحت هذه الأغلبية التي تتسم بتدني الوعي وانتشار ثلاثية الفقر والجهل والمرض بمثابة السوق الاستهلاكية العريضة التي يروج فيها أنواع معينة من الخطابات التي تتناسب مع نوعية الجمهور المستهلك وخصائصه النفسية والمعنوية ومستواه من الوعي والثقافة, ولذلك شاهدنا نماذج عديدة لأنواع متدنية من هذا الخطاب تستخرج من التراث أسوأ ما عرفه في عصور الضعف وتعبر في أغلب الأحيان عن قصور في الفهم لا يرتقي إلي الجوهر والمقصد ويركز علي النواحي الشكلية والسطحية مع افتقار شديد لفقه الأولويات. ولذلك فإن نظرة إلي إصلاح هذا الخطاب أو ما اصطلح علي تسميته تجديده لا يمكن أن يتم بمعزل عن عملية شاملة لإصلاح المجتمع ككل ولجميع مظاهر الضعف والانحدار التي تسود جميع جوانبه, فمن أمية قراءة وكتابة ضاربة في عمق المجتمع, إلي أمية ثقافية ما اصطلح علي تسميتهم بالمتعلمين أو انصاف المتعلمين, إلي عموم الفقر وتدني مستوي المعيشة, وتدهور الأحوال الصحية, كل هذه العوامل وغيرها أدت إلي الميل إلي شيوع نمط من التفكير غير العقلاني كشف عن أنواع متدنية من الخطاب سواء في صورته الاجتماعية, أو السياسية, و الدينية. إن الرغبة في إعادة إنتاج هذا الخطاب وتجديده وتوجيهه نحو التركيز علي الوحدة ونبذ الفرقة والانقسام, وعلي مخاطبة المشاعر الإنسانية الراقية من تسامح وصدق وأخوة تجمع بين أفراد الدين الواحد في أخوة دينية, وإفراد الوطن الواحد في اطار وطني, وأفراد الجنس البشري في أخوة إنسانية, هذه الرغبة لابد لها من أن تميز بين حالتين يتأرجح بينهما هذا الخطاب, وهما حالتي: المثالية, والواقعية, فالخطاب الديني الذي يتحدث عن ملكوت السماء وما ينتظر المؤمنين في الآخر من مظاهر الثواب والنعيم, وما يرسمه من مجتمع مثالي فاضل تسود فيه القيم الدينية الرفيعة من الواقع المعاش وما يقاسيه الإنسان العادي المادح, من مظاهر الفقر والبؤس والعسف. إن الخطاب الديني لابد له من فقه الواقع حتي يستطيع أن يمتلك التواصل والنفاذ إلي إدراك عموم الأفراد في المجتمع, ذلك أن لغة الخطاب الموجه إلي البسطاء والفقراء والكادحين إن كانت تحثهم علي الصبر وانتظار الجزاء في الآخرة, فإن لغة الخطاب إلي الأغنياء لابد وأن تحثهم علي أداء واجبهم نحو إخوانهم في الدين والوطن, وأن تذكرهم بما توعد الله به الذين يجمعون الأموال بالطرق غير المشروعة, والذين يأكلون أموال الناس بالباطل, والذين يشبعون إلي حد التخمة ويتركون غيرهم من أبناء الوطن الواحد جائعين. وإذا كانت لغة الخطاب إلي الضعفاء والمستضعفين تحثهم علي الرضا بالأمر الواقع, وانتظار المدافع عنهم في شخص منقذ منتظر أو مخلص فإن هذا الخطاب لابد له وأن يوجه إلي الأقوياء والمستكبرين رسالة تذكرهم بما توعد به الله الفاسدين والمفسدين, وأنه إذا دعتهم قدرتهم إلي ظلم الناس فليتذكروا قدرة الله عليهم. إن المطالبة بنشر ثقافة التسامح والسلام, وقبول الآخر لا يمكن أن تجد آذانا مصغية في ظل واقع يتسم بالظلم الفادح, وعدم العدالة الاجتماعية وانتشار التناقضات, والكيل بمكيالين سواء في الواقع الدولي أو المحلي, فهذا من شأنه إثارة نوازع التطرف ولجوء الأفراد إلي الخروج علي الشرعية سواء كانت محلية أو دولية طالما فقدوا الأمل في الحصول علي حقوقهم ومطالبهم المشروعة بالطرق الشرعية والقانونية. إن خطابا دينيا تغيب عنه مطالب الناس المشروعة والشرعية لا يمكن أن يصل إلي الإقناع والإدراك من جانبهم, ذلك أن أول درجات القبول هو الاحساس بالعدل ووجود القدوة والأسوة فحينئذ يمكن للناس تحمل الفقر وقلة الموارد, وجميع الظروف الصعبة مادامت القدوة ماثلة أمامهم. والخلاصة: إن خطابا دينيا عاما يتسم بالصدق في الإحساس بالناس, ومخاطبة واقعهم المعاش, والتركيز علي ما يهمهم في أمور حياتهم وأخلاقيات تعاملهم, والبعد عن الخوض في الأمور الخلافية في العقيدة, واعطاء الأولوية لما ينفع الناس بعيدا عن النواحي الشكلية أو المظهرية, وعن السعي للشهرة وجلب المكاسب, خطابا مثل هذا يمكن أن يكون خطابا جامعا يجمع أبناء الوطن الواحد علي التعاون علي البر والتقوي, وليس علي الإثم والعدوان في ظل قانون يساوي بين الجميع مهما اختلفت عقائدهم بحيث يشعر كل فرد في المجتمع, رجلا كان أم امرأة, شيخا كان أم شابا أو طفلا بأنه يستطيع أن يحصل علي حقوقه بالطرق المشروعة في ظل مظلة للعدل تقوم علي سيادة القانون, فالكل سواسية أمام القانون يستوي في ذلك الأغنياء والفقراء, والأقوياء والضعفاء, وصدق الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم حين قال: إنما أهلك الذين من قبلكم أنه إذا سرق فيهم الشريف( يقصد المسنود بالحسب والنسب والثروة), تركوه, وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد.