كانت فيلا( راوية) الشهيرة رقم4 شارع الفلكي بمصر الجديدة هي الفيلا نفسها التي يقطنها الموسيقار الكبير رياض السنباطي وقد رأي أن يكتبها باسم أكبر بناته وأولاده( راوية) وأصبحت من المعالم المهمة والمعروفة لكل سكان حي مصر الجديدة التي تنطلق منها روائع ألحان الموسيقار الكبير لسيدة الغناء العربي أم كلثوم, وقد توثقت علاقتي بالسنباطي وبدأت أتردد عليه بعد أن رشحت له صوت القاهرة في ذلك الوقت أغنيتي( اتصالحنا أنا وحبيبي) وغنتها الفنانة الكبيرة فايدة كامل وجمعتني به أكثر من مرةخلال بروفات الأغنية التي تم تسجيلها في استوديو35 بالإذاعة يوم21 نوفمبر1968 وتم طبعها علي اسطوانة استغرقت خمسين دقيقة وشاءت الظروف أن تتواصل لقاءاتي بالموسيقار الكبير ويزداد اقترابي منه ومن أسرته وأتعرف علي الطقوس المهمة التي كان يمارسها وتلتزم بتنفيذها أسرته عندما يدخل صومعته لتلحين أي قصيدة أو أغنية جديدة ويصدر تعليماته الصارمة لأولاده بعدم الدخول والاقتراب منه أثناء استغراقه في التلحين, وكان السنباطي رحمه الله يستثني من هذه الطقوس زوجته وشريكة حياته السيدة الجليلة( كوكب عبدالبر) التي كانت دائما تجلس أمام صومعته وتتابع من بعد استغراقه في التلحين ولا تدخل عليه إلا بعد أن ينادي عليها في الاستراحة ليتناول كوب ماء أو فنجان القهوة السادة الذي تحرص علي تقديمه له. وذات ليلة كانت الساعة قد اقتربت من منتصف الليل سمعت السيدة كوكب عبدالبر صوته وهو يدندن علي العود في قمة التأثر وكاد أن يبكي من شدة تأثره وانفعاله بكلمات الأغنية فطرقت باب صومعته مستأذنة إياه بالدخول وجلست إلي جواره تسأله ماذا بك يا رياض حتي تتأثر إلي هذا الحد؟ وماهي تلك الكلمات التي جعلتك تعيش كل هذا التأثر؟ ولم تبرح مكانها إلا بعد أن سمعته يغني بصوته علي العود( دعائي لبيته لحد باب بيته.. ولما تجلالي.. بالدمع ناجيته) وسعدت زوجته بهذا اللحن الديني وامسكت بالنص المكتوب ليتبين لها أن هذه الأغنية كتبها الشاعر الكبير أبوالعامية محمود بيرم التونسي وطلبت منه أن يسمعها دخول مذاهب الأغنية فغناها لها( القلب يعشق كل جميل.. وياما شفت جمال ياعين.. واللي صدق في الحب قليل.. وإن دام يدوم يوم.. ولا يومين.. واللي هويته اليوم.. دايم وصاله دوم), وعرفت أنها أغنية دينية عن حج بيت الله واستمعت إلي مذهب الأغنية الذي كان يحرص دائما علي أن يطلعها عليه عند تلحينه لأي أغنية جديدةحيث كان كما يقول يتفاءل بها عندما تسمع أي لحن ويتوقع له النجاح, ثم عادت لتسأله مرة أخري لماذا كدت أن تبكي وأنت تلحن هذه الأغنية فقال لها: لقد سرحت بخيالي وتمنيت من الله أن يكتب لي حج بيته الحرام وأطوف بالكعبة المشرفة وأقوم بالسعي بين الصفا والمروة ثم اختم زيارتي بزيارة قبر الرسول عليه الصلاة والسلام وأصلي ركعتين في الروضة الشريفة, فردت عليه زوجته: أنا واثقة يا رياض بعد هذا اللحن الجميل أن الله سيحقق لك هذه الأمنية. وانتهي السنباطي بالفعل من اللحن بعد أسبوع من اعتكافه بصومعته وفجأة وفي اليوم الأخير دق جرس التليفون في المساء لتسمع زوجته صوت أم كلثوم عبر الهاتف لتسألها كالعادة أخبار رياض إيه؟ وإيه أخبار القلب يعشق؟ فزفت إليها خبر انتهاء السنباطي من اللحن فقالت لها اديني رياض الذي قال لها مبروك ياست: القلب يعشق خلصت خلاص فانشرح صدرها وطلبت منه تحديد موعد البروفات واتصلت في اليوم التالي بقائد فرقتها الموسيقية عازف القانون الأول محمد عبده صالح وجلس السنباطي معه عدة جلسات لكتابة النوتة الموسيقية في استوديو35 واستغرقت البروفات أسبوعين بحضور أم كلثوم والفرقة الموسيقية التي تتكون من45 عازفا ليتم التسجيل بالفعل يوم28 مارس1971 وتحدد موعد تقديم الأغنية التي غنتها أم كلثوم واستقبلها الجمهور استقبالا باهرا, وطلب إعادة المذهب والكوبليهات أكثر من مرة وسط التصفيق المدوي الذي كاد لا ينقطع إعجابا بأداء سيدة الغناء وروعة ألحان السنباطي وعبقرية كلمات بيرم التونسي بينما كان السنباطي في فيلته يسجل الحفل علي جهاز ريكوردر لتستمتع إليه الأسرة في اليوم التالي وتحتفل بنجاحه المدوي. وتتحقق أمنية السنباي ويكتب الله له أداء هذه الفريضة كما بشرته زوجته أثناء تلحين الأغنية ويشد السنباطي الرحال ويشتري ملابس الإحرام ويستعد للسفر مع حجاج بيت الله ويصل إلي مكةالمكرمة ويبدأ في أداء مناسك الحج ليتأكد له أثناء الطواف أنه لحن هذه الأغنية ليتذكر الأماكن التي جاءت في نص الكلمات ولحنها كأنه رآها من قبل خاصة في الشطرات التي تقول عن مكةالمكرمة( مكة وفيها جبال النور.. طاله علي البيت المعمور.. دخلنا باب السلام.. غمر قلوبنا السلام لعفو رب غفور), لتسيل دموع السنباطي في أثناء الطواف تأثرا لهذه المناسك وتزداد فرحته وشعوره بالرضا أثناء زيارته لقبر الرسول صلي الله عليه وسلم في الروضة الشريفة ليتذكر أيضا اللحن المعبر الذي صاغه وهوفي القاهرة وكأنه عايش هذه المناسك من قبل أن يراها ولكن الله هو الذي ألهمه كل هذا ليتذكر الكلمات التي صاغها بيرم ولحنها لتأتي مطابقة تماما لما شاهده وهو في الروضة الشريفة ويردد بينه وبين نفسه هناك كلمات( جينا علي روضة.. هاله من الجنة فيها الأحبة تنول.. كل اللي تتمني.. فيها نور علي نور.. وكاس محبة يدور واللي شرب غني) وتزداد فرحة السنباطي بأداء هذه المناسبك التي كتبها الله له وتزداد فرحته أكثر عندما كان يتنقل مع الحجيج في الحافلات التي تقلهم من مكة إلي المدينة ثم إلي جبل عرفات وهم يغنون بصوت واحد( القلب يعشق كل جميل.. وياما شفت جمال يا عين) ويرددونها في كل مكان يقومون بزيارته وهو يغني معهم أيضا دون أن يعرفوا أن صاحب هذا اللحن الرائع( القلب يعشق) هو أحد الحجاج الذي يجلس بينهم دون أن يبلغهم أنه رياض السنباطي, ونفس الشيء حدث أثناء إقبال الحجاج علي شراء هذه الأغنية التي طبعت منها صوت القاهرة آلاف الاسطوانات وبعثت بها إلي السعودية لتكون بين أيدي حجاج بيت الله الحرام وهي فكرة جيدة من صوت القاهرة ليس من أجل الكسب المادي ولكن من أجل هذا العمل الديني الرائع الذي جسده ثلاثة من عمالقة الإبداع الفني في مصر ويتسابق الحجاج علي شرائها واقتنائها دون أن يعرفوا أن صاحب لحن هذه الاسطوانة هو أحد الحجاج الموجود بينهم, ويعود في النهاية السنباطي إلي بيته لستقبله زوجته وبناته في مطار القاهرة عائدا من رحلة الحج إلي فيلا راوية التي خرج من بين جدرانها هذا اللحن الرائع( القلب يعشق) وكتب الله له هذه الحجة بعد دعاء زوجته الطيبة التي كانت تقف جواره في كل لحن رائع تغنت به سيدة الغناء العربي أم كلثوم.