أحمد طوغان هو شيخ رسامي الكاريكاتير87 عاما أطال الله في عمره يكتب هذه السلسلة عن الشخصيات التي شغلت حيزا في وجدانه وخزانة ذكرياته التي يفتحها لملحق الجمعة ب الأهرام يتناول فيها الكواليس التي عاصرها عبر مشواره الذي يمتد لأكثر من65 عاما.. وتأتي أهمية هذا السرد الذاتي إلي كونه ليس مجرد حكي بقدر ما هو تأريخ وتسجيل لأحداث غنية بالمعلومات والأسرار ولكن غفلها التاريخ كما يحدث عادة وأسقطها من ذاكرته الرسمية, وكما يفعل رسام الكاريكاتير فهو لا يرسم الواقع ولكن تأثير الواقع عليه... كذلك كتب طوغان عن هذه الشخصيات بصدق وحب. بعد نجاح ثورة يوليو52, وفي الاجتماع الخامس لقياداتها قرروا إصدار جريدة تعبر عن أحلامهم وآمالهم في تغيير الواقع إلي واقع أفضل يحقق مطالب الشعب الذي أرهقه عجز النظام السابق الذي أصابته بالشيخوخة والتجمد وفقدان القدرة علي مواجهة الأحداث في المنطقة التي تجتاحها عاصفة ممثلة في الصهيونية التي تمكنت وتمركزت, إلي جانب فيروس التخلف والفساد الذي يعيق تقدم الشعب ولحاقه بالعصر, وكان في مقدمة الهموم, وجود قوات الاحتلال وانتشارها في مدن القناة! استصدر جمال عبد الناصر التصريح لجريدة باسم الجمهورية! وكان من الطبيعي أن يطلبوا من أنور السادات حمل مسئولية إصدار الجريدة المطلوبة لما له من تجربة صحفية سابقة ليست قصيرة في دار الهلال عندما كان يعمل محررا في صحفها بالإضافة إلي كتاباته في مجلة المصور خلال فترة طرده من الجيش بعد اتهامه بالتحريض وتدبير قتل الوزير في حكومة الوفد أمين عثمان الذي كان ربيبا لسلطة الاحتلال, وبالرغم من حصول السادات خلال المحاكمة علي البراءة إلا أنهم أخرجوه من الجيش, فراح يبحث عن الرزق والتحق بدار الهلال! بدأ خطوته لتنفيذ قرار إصدار الجمهورية فاختار الدكتور طه حسين, ويساعده حسين فهمي في رئاسة التحرير! وأمر بتعيين زكريا الحجاوي وعبد العزيز جبر مديرين للتحرير, كما أمر بتعيين محمد علي ماهر وعباس الأسواني وعبد السلام الشريف ومحمود السعدني وأنا ز س ز س وخميس كانت وثيقة, كما عين الصحفي المناضل المغامر سعد زغلول فؤاد صاحب التاريخ الحافل والذي لم يترك سجنا سياسيا في المغرب أو في المشرق لم يدخل فيه! وطبعا بالإضافة إلي زملاء أعزاء آخرين في يناير1953! عشت في جو من الألفة والمرح والتفاؤل سمح لي بالانطلاق في الرسم والتعبير عما يجري في الوطن العربي من المحيط إلي الخليج وملاحقة الاستعمار الإنجليزي الذي كانت بقاياه مازالت متمركزة علي طول منطقة قناة السويس, إلي جانب الهجمة الصهيونية علي فلسطين وتنبيه الناس لها عن طريق الكاريكاتير! كانت فترة ممتعة أحسست فيها بالدفء بين الأقران, وبالتقدير حتي من الثوار الذين كانت رسومي الكاريكاتيرية محلا لإعجابهم ورضاهم والذين كانت كثيرا ما تصلني تحياتهم, وأيقنت بأن ثورة يوليو هي فجر جديد أشرق علي مصر. وبعد سنوات ثلاث وقع الاختيار علي أنور السادات لتولي أمانة المؤتمر الإسلامي فترك الجمهورية, وترك في رئاسة التحرير جلال الدين الحمامصي الذي لم يلبث طويلا وتركها وعاد للأخبار, ثم تولي أمين شاكر من الضباط الأحرار وكان مديرا لمكتب الرئيس عبد الناصر مسئولية الجريدة. كان أمين شاكر في عز الشباب, وكانت عسكريته تملأ نفسه وتسبب رهبة للمحررين, وفي مرة دخل عليه محيي الدين فكري يعرض شيئا وفي يده سيجارة فصرخ أمين في وجهه قائلا: اقف عدل واطفي السيجارة! ثم قال: تعالي بعد شوية, وعندما خرج محيي ذهب يشكو لرئيس التحرير وكان أيامها كامل الشناوي قائلا: ده قال لي اطفي السيجارة! فسأله كامل: وطفيتها؟! فقال محيي: أيوه! فرد عليه كامل: وانت عاوز أيه دلوقت؟ أولعلها لك! لم يلبث أمين طويلا في الدار فتركها وعمل سفيرا في الخارج! بعده جاءنا محسن عبد الخالق أحد الضباط الأحرار الذين كان لهم حضور متميز في التنظيم! جاء محسن وقضي أغلب الوقت في مكتبه وبابه مفتوح لمن يستطيع لقاءه إذا ما صادف مشكلة أو احتاج إلي عرض شئ أو طلب الحصول علي موافقة أو استئذان, كما كان كثير السفر إلي الخارج! ران الصمت والهدوء والرتابة في المكان, فانصرفنا إلي واجبنا في الجريدة نؤدي المطلوب, أما حياتنا الخاصة, فنقلناها إلي كازينو بديعة بحديقته الجميلة مكانه الآن أصبح فندق شيراتون القاهرةس عبد القدوس وكامل الشناوي وبيرم التونسي وأحمد الألفي عطية ومصطفي وعلي أمين وفريد الأطرش والموجي ومحمد علي غريب والفنان العظيم رخا! وظل الحال علي ما هو عليه إلي أن جاءنا صلاح سالم رئيسا لمجلس الإدارة بالإضافة إلي رئاسته للتحرير! كان صلاح سالم يتمتع ببراءة الأطفال وعنفوان الشباب, وكانت تصريحاته وخطاباته نارية! إلي جانب ثقته الشديدة بقوة الثورة وفرحته الكبيرة بنجاحها, كان إيمانه بضرورة الانضباط لضمان استمرارها يفوق الحد حتي إن بعض الناس تصوروا أنه الرجل الأول في الثورة! حدد مواعيد صارمة للحضور والانصراف, وأمر بساعة علي الباب الرئيسي للتوقيع عليها فركز المحررون اهتمامهم الأول في الالتزام بالمواعيد وخافوا من تجاوزها! في أحد الأيام جاءنا الخبر بأن جامعة الدول العربية أقامت حفلا للاحتفاء بزعماء عرب كانوا ضيوفا علي مصر, وقتها كان الدكتور محمود فوزي وزيرا للخارجية وهو الوزير الوحيد الذي استبقته الثورة من بين كل وزراء العهد البائد وذلك لخبرته الطويلة في العمل الدبلوماسي واتسامه بالكفاءة وبعد النظر والفهم العميق لواجبه كوزير للخارجية, وكان الدكتور فوزي متقدما في العمر, وتأخر دقائق في الوصول إلي قاعة الاستقبال, وما أن اجتاز الباب حتي فوجئ بصلاح سالم الذي كان يقف مع مجموعة من الضيوف يتقدم منه وهو يشير إلي ساعة يده ويقول في امتعاض: ز س! بعض الثوار قد دخل فيها قدر من التنافس, وعلي الأخص بين صلاح سالم وأنور السادات! عندما صدرت الجمهورية ونجحت وأصبح لها الصوت المسموع والانتشار الواسع, فكر صلاح سالم في إصدار جريدة واختار لها اسم جريدة الشعب! وحصل علي مبني بشارع قصر العيني كانت تصدر منه جريدة المصري, التي كان يرأس تحريرها أحمد أبو الفتح والتي أغلقتها الثورة وصادرت المبني والمطبعة! صدرت الشعب واستمرت في الصدور إلي أن رأي المسئولون إدماج الجريدتين في جريدة واحدة يتولي مسئوليتها صلاح سالم! وصدرت الجريدة الجديدة باسم الجمهورية جريدة الشعب, وطالب صلاح سالم بأن يكون رئيسا للتحرير بالإضافة إلي رئاسة مجلس الإدارة, وجاء بطاقم من الصحفيين الذين كانوا يعملون معه في جريدة الشعب لمساعدته في المهمة الجديدة, وحدثت عمليات إحلال في المواقع! أيامها كنت أنا المسئول عن قسم الرسم وكان معي محيي اللباد وجورج البهجوري وحسن عثمان وعلي مهيب وفضلون ومحمد قطب ومديحة رجب وعطيات الدسوقي ومحمود فرج إلي جانب رشاد حبيب الذي كانت مهمته علاج الصور الفوتوغرافية قبل إرسالها للطبع! كنت أنا أول هدف في التغيير, إذ أن صلاح سالم كان يدري عن علاقتي بأنور السادات! أمر صلاح بإلغاء مسئوليتي عن قسم الرسم, وبدأت رسومي في التراجع, ثم جاءني قرار موقع من صلاح سالم بالفصل من العمل بلا ذنب ولا جريرة! لم تهزمني الصدمة التي جاءت بالتدريج وعلي مهل, ولم أتأثر بها وانتويت وقررت تغيير اتجاهي والبعد نهائيا عن العمل بالصحافة! وكان لي صديق هو أحمد غنيم الذي كان محاميا عاما وقتها وكان يهوي الفن التشكيلي ويمارسه ويقتني لوحات الفنانين وصديق آخر لي هو الفنان الرسام عادل حسني, عرضت عليهما فكرة الاشتراك في مشروع يسعدنا ويغنينا ولا يكلفنا شيئا, وعندما وافقاني ذهبنا إلي حي مصر القديمة! كانت فيه منطقة لصناعة الفخار قلل وأزيار وأباريقس زس الشيشة, وبعد بعض التعديلات, عدنا بها إلي شقة صغيرة في الدور الأرضي كنت أستأجرها في شارع السيد البكري بحي الزمالك, علي بعد خطوات من قصر عائشة فهمي الذي أصبح الآن مركزا للفنون! وبالمزاج والحماس وراحة البال والتفاؤل استطعنا إنتاج ثلاث تحف رسمناها بالألوان الزيتية, أيامها كنت زبونا لمحل يبيع الزهور قريب من الشقة, كان يملكه يوناني حاصل علي الجنسية المصرية وكان يحب الحياة ويعيش سعيدا بين الورود والزهور متعددة الرائحة والألوان, وأحيانا ما كنت أجلس إليه نتبادل الكلام وشرب القهوة كما أنني كنت قد حدثته عن المشروع! وذهبت إليه بالفازات الثلاث وأضفت إليها تمثالا من خشب الأبنوس يضعه إلي جانب الفازات علي أنه مباع, فأحسن استقبال الفازات وأفرد لها مكانا علي رف صغيرة في مقدمة المحل وفي العصر رن جرس التليفون وكان الخواجة يقول بأن الفازات الثلاث بيعت! كنا قد دفعنا لعامل الفخار بمصر القديمة ثمانية قروش في الفازة! والجنيه لمن لا يعلم مائة قرش, بيعت الفازة الواحدة بثلاثة جنيهات وهو الثمن الذي كنا قد حددناه.. فتأكدنا أننا عثرنا علي الطريق الصحيح إلي السعادة والثراء, وهداني التفكير والنجاح إلي فكرة تحويل الشقة إلي متجر للتحف وفتح نوافذها وتحويلها إلي فتارين للعرض, وفرحنا بالحياة في متحف يتجدد باستمرار إلي جانب استقبال زبائن التحف وهم نوعية متميزة بين الناس, وبدأنا في تنفيذ المشروع! وفي يوم جاءني سعد الدين وهبة وكان أيامها مدير تحرير الجمهورية, وبعد شرب القهوة قال لي: صدر أمر من الرئيس عبد الناصر شخصيا برجوع جميع المفصولين وكلهم عادوا ولم يبق إلا أنت, كان المفصولون معي هم بيرم التونسي وسامي داود ومحمد الفيتوري وإبراهيم عامر ورائد عطار وآخرين! قلت لسعد إن قراري ترك الجمهورية والبعد عن العمل بالصحافة نهائي لا رجعة عنه! فبصرني بخطورة الموقف وما يسببه عدم امتثالي, فرويت له قصة محل التحف فقال: وهوه محل التحف ده مش عاوز ترخيص؟! لما تيجي تطلبه مش ح تأخذه!. قلت: ح أسرح بعربية ترمس, قال: عسكري البلدية ح يمسك وسكت ثم قال: ارجع أحسنلك ومتنساش إن المرتب الشهري مضمون! وعندها ضعفت مقاومتي وعدت إلي الجمهورية, كانت غرفة الرسم قد خلت من اللباد والبهجوري وقطب وفضلون ومديحة رجب وعطيات الدسوقي ومحمد قطب, تسربوا الواحد وراء الآخر, أما فضلوان الفنان العبقري فقد نقلوه إلي مجلة الإذاعة, ورشاد حبيب للحسابات! أما أنا فعشت مهمشا, وبدأت رسومي تنزوي وتفقد حيويتها ولا تجد لنفسها مكانا! وفي محاولة لزيادة التوزيع الذي كان قد بدأ في التراجع لجأوا إلي الياناصيب مثل اشتري الجمهورية تكسب سيارة! وألف جنيه لقارئ الجمهورية بالإضافة إلي العدد الكبير من الصفحات الذي يزيد أربع مرات عما تطبعه باقي الصحف! أيامها لم يكن استعمال أكياس البلاستيك قد عرف بين الناس, وكان استخدام ورق الصحف معمولا به في لف وتغليف الأشياء, بلغ سعر الورق في هذه الأيام أعلي من ثمن الجريدة نفسها, وكان مستوي التحرير متدنيا وبعيدا عن اهتمامات غالبية الناس, كنا نسهر في محل كان اسمه الكاب دور في شارع عدلي, وكان صاحب المحل من أصل يوناني واكتشفنا أنه يشتري نسختين من الجمهورية ولما سألناه قال: عشان تنضيف الزجاج! لم تكن الجمهورية تحظي بتواجد صلاح سالم في غالب الأيام, وكانت حوله مجموعة من قيادات الدار تصحبه في رحلات بأنحاء القطر! وفي يوم جاء إلي الجريدة ودعا إلي اجتماع عام حضرته قيادات وأعضاء أسرة التحرير احتفالا بزيادة التوزيع وكنت بين الحاضرين, ولأن لساني عادة ما ينفلت مني طلبت الكلمة, وعندما وقفت قلت: إن زيادة التوزيع غير طبيعية وأن الجريدة لا تؤدي الغرض الذي أنشئت من أجله, واليوم منشور فيها علي الصفحة الأولي وعلي ثلاثة أعمدة خبر يقول: إن كلب الممثلة ماجدة ضاع! وأريد أن أعرف ما هو المقصود من نشر هذا الخبر وبهذه الطريقة؟ هل هي دعوي للشعب المصري للقيام بالبحث عن كلب ماجدة؟! وقع الحاضرون في صمت وذهول, فوقف صلاح سالم واستشاط بالغضب قائلا: أمال أنت عاوز أيه؟! وحلا للموقف الذي تكهرب وأصبح علي وشك الانفجار تأبط جلال فيظي الذي كان مديرا لمكتب صلاح ذراعه وغادر به المكان بين ذهول الحاضرين! ذهب صلاح سالم وترك في الجمهورية خمسة رؤساء تحرير هم إبراهيم نوار وإسماعيل الحبروك وكامل الشناوي وموسي صبري والصحفي الفلسطيني ناصر النشاشيبي وسارت الأمور في هدوء! ثم جاء حلمي سلام الذي كان علي علاقة وثيقة بتنظيم الضباط الأحرار قبل الثورة وكان من أشد المتحمسين للحياة الجديدة وأخذه الحماس إلي الاعتقاد بأنه واحد من أعضاء مجلس الثورة وكان يتصرف علي هذا الأساس وكان من المقربين للمشير عبد الحكيم عامر وشكا له يوما كسل العاملين وتراخيهم, فجاء البوليس الحربي وقبض علي عدد منهم, كما أبعدوا بعدها عددا من الصحفيين ووزعوهم علي الوزارات والشركات! لم يستمر في الجمهورية أكثر من عام واحد بعده جاءنا الأديب الشاعر المهذب مرهف الحس والشعور( مصطفي بهجت بدوي) الذي عشت في فترته أشعر بالتقدير والمودة, وفي عهده سافرت إلي الجزائر وعشت مع ثوار جيش التحرير الوطني الجزائري وعدت إلي مصر بأربع عشرة صفحة نشرتها الجمهورية تباعا وعن طريقها عرف الناس ما يحدث في الجزائر! وفي عام1966 جاء فتحي غانم رئيسا لمجلس الإدارة ورئيسا للتحرير, وبعد مجيئه بفترة وقعت كارثة1967! وفي يوم12 يونيو1967 كتبت خطابا للرئيس جمال عبد الناصر قلت فيه: إن المسئولية فيما وقع مشتركة وحددت مسئولية الإعلام وبالذات مسئولية تحرير الجمهورية التي كانت بعيدة عن الأحداث وانشغالها بما هو بعيد عن الواقع, ويبدو أن خطابي للزعيم اعتبروه تجاوزا! وكل الذي حدث بعدها أنني عندما ذهبت في اليوم التالي إلي الجريدة لم أجد مكتبي ولا طاولة الرسم التي كنت أرسم عليها, وقالوا لي إن فتحي غانم أمر برفع المكتب والطاولة! ومن يومها وأنا ليس لي مكان في الجمهورية وتعاملي معها عن طريق الفاكس! بعدها بسنوات انتقل الرئيس جمال عبد الناصر إلي الرفيق الأعلي وتولي أنور السادات الحكم, وأول قرار أصدره كان تنظيم الاتحاد الاشتراكي, وتكوينه علي أساس انتخابات حرة نزيهة بدون أي تدخل! فرشحت نفسي وحصلت علي أعلي الأصوات, وانتخبت أمينا للاتحاد في دار التحرير, وفي نفس الوقت أصدر الرئيس السادات قرارا بإعادة مصطفي بهجت بدوي رئيسا لمجلس إدارة الدار! وسارت الأمور طبيعية بلا مشاكل ولا متاعب في ظل دماثة وحسن تصرف وكياسة مصطفي بك, إلي أن جاء لنا الأديب الكبير عبد المنعم الصاوي رئيسا لمجلس الإدارة ومحسن محمد رئيسا للتحرير! كان مجئ الصاوي خيرا وبركة وعهدا زاهرا بالنسبة لكل العاملين في الدار وهو الذي استصدر قرارا بلائحة أجور للصحفيين, قبلها كان مرتب الصحفي حسب المزاج وكان التفاوت بين المرتبات يثير الإحباط والغيرة والحسد والمرارة في نفوس القاعدة العامة للصحفيين, كما استطاع الصاوي تقويم الكثير في إدارة الجريدة وكان يكتب فيها عاموده اليومي قطر الندي وكانت علاقتي بالصاوي وثيقة ودافئة فيها مودة وحب واحترام وتقدير! وتقدم الصاوي لترشيح نفسه في انتخابات مجلس الشعب ونجح وأصبح عضوا في البرلمان, وبعد فترة رشح وكيلا لمجلس الشعب بعدها أصبح وزيرا للإعلام! بعد عبد المنعم الصاوي تولي محسن محمد مكانه رئيسا لمجلس الإدارة إلي جانب رئاسته للتحرير التي كان يشغلها قبل ذهاب الصاوي! وما إن جلس محسن علي الكرسي الجديد حتي انصرف إلي شئونه الخاصة وكتابة مقالاته إلي جانب هوايته في القراءة التي تلتهم معظم وقته, وهو يقرأ في اليوم تلا من الصحف والمجلات المصرية والعربية والأجنبية بالإضافة إلي الكتب الجديدة. اكتفي محسن بالتحرير واخترع أبوابا جديدة أبرزها كان بابا لإعلانات الزواج والطلاق وبابا لأعياد الميلاد, كما ضم إلي أسرة التحرير عناصر جديدة منها الناجح الذي ساعده إخلاصه وموهبته علي سلوك الطريق الصحيح, ومنها الانتهازي الذي لجأ إلي النفاق والدس والوقيعة وحصل علي الترقي وجني المكاسب والامتيازات! بدأت أشعر من محسن تجاهي بشئ من الجفاء, ولم اهتم, ومن خصالي التي أضرت بي أنني أتجنب من يجافيني, خصوصا إذا كان كما اعتقد بدون سبب, ولأننا نعمل في دار واحدة فكان لابد أن يحدث بيننا لقاء, في الصالة أو في المصعد أو فيمدخل الدار ألقي منه التكشير والأزورار فاتعجب ولا أحاول سؤاله عن معرفة السبب وأهمل الموضوع واعترف بأن تصرف محسن تجاهي شغلني وحاولت تخمين السبب, وتذكرت مرة أنني كنت جالسا في حديقة نقابة الصحفيين انتظر شراء سكر من محل كانت النقابة قد أقامته علي جزء من حديقتها كان للنقابة حديقة قبل المبني الحالي لبيع المواد التموينية للصحفيين حفاظا علي كرامتهم من الوقوف في الطوابير! أيامها كانت الفراخ واللحم والسكر واللبن والزيت يجري توزيعه بالبطاقات, وفي انتظاري لفتح المحل دخل الزميل عادل سليمان الذي كان يعمل أيامها محررا في الجمهورية, وكانت بين عادل ومحسن معركة شرسة, كثيرا ما كان يتدني فيها عادل وتخرج من فمه العيبة في حق محسن, وكنت دائما أنصحه وأحيانا كنت أعنفه, وعندما وجدني في الحديقة جاء وجلس إلي جانبي! وبعد لحظات دخل من باب النقابة الزميل محمد صدقي الذي أقبل علي متهللا وما أن تبين وجود عادل حتي جفل وقفز وفر إلي مكان بعيد, كان باقيا لصدقي علي بلوغه سن المعاش سبعة شهور فكان يتردد علي مكتب محسن باستمرار آملا في نيل رضاه والحصول منه علي قرار بمد خدمته في الجريدة! وبالرغم من سمعته أيامها كأديب ناجح وله قصص وروايات يقتنيها الناس إلا أن ظروفه المالية كانت دقيقة وقاسية, ألجأته إلي استخدام الرياء والنفاق وأحيانا النميمية, وكان محسن يقرب هذا النوع, وتصورت أن صدقي من الممكن أن يكون قد ذهب إليه وفي معرض التظاهر بالغضب من أجله قال له بأن طوغان وعادل يسبان ويلعنان فيه بحديقة النقابة! قلت لنفسي ربما يكون ذلك سبب جفاء محسن وأحسست أنه في هذه الحالة يكون تصرف محسن تماما كتصرف صدقي وكلا التصرفين لا يستحقان الاهتمام, كما كنت قد شعرت بالإهانة من محسن, إذا ما كان قد صدق بأنني تدنيت إلي حد النيل منه أمام الصحفيين في حديقة النقابة فصرفت النظر عن الموضوع! ثم عاد وشغلني موقف محسن مني فعدت إلي الموضوع وتذكرت القصة الآتية, في يوم بادرني عبد المنعم الصاوي بسؤال عما إذا كنت قريب حمروش؟ ولما قلت له لا من قريب ولا من بعيد, لمحت علي وجهه الدهشة, فسعيت حتي تمكنت من معرفة سبب دهشته! كان السبب هو أن اجتماعا كان قد تم بين الرئيس السادات وممدوح سالم وعبد المنعم الصاوي لاختيار رئيس جديد لدار التحرير بعد ذهاب الصاوي وكيلا لمجلس الشعب, ورشحني الصاوي للمنصب, ولكن ممدوح سالم قال: بس إزاي يبقي طوغان رئيس مجلس الإدارة وحمروش العضو المنتدب والاتنين قرايب؟! وسأل الرئيس السادات بدهشة: هوه طوغان قريب حمروش؟! ورد ممدوح سالم قائلا: بيقولو وانتهت الجلسة بتعيين محسن! شكرت الصاوي علي تقديره لي وطمأنته بأن ما حدث لا يؤثر في نفسي, لأني بداية لا أستطيع تحمل تباعتها ولا مسئولياتها, ثانيا لأني لا أصلح لها ولا تصلح لي, وكل الذي أصلح له هو رسم الكاريكاتير وأرجو أن يحالفني الحظ وأترك ورائي أثرا كرسام كاريكاتير, وقلت لنفسي: قد يكون هذا هو سبب جفاء محسن وفكرت في الذهاب إليه ولكني نكصت لإحساسي أنه لا فائدة من الكلام! أمضيت في الجمهورية أغلب سنوات عمري عشت أمجادها وكبواتها, لقيت فيها التكريم والتقدير وعانيت منها التجاهل والتهميش.. دخلتها ورئيس تحريرها طه حسين وأخرجت منها ورئيس تحريرها محمد إبراهيم!