سعر الدولار اليوم يقفز عالميًا بعد الهجوم الإيراني الجديد (قائمة أسعاره الجديدة)    أسعار الخضروات والأسماك والدواجن اليوم 16 يونيو بسوق العبور للجملة    بعد عمله اليومى.. محافظ قنا يتجول بدراجة فى شوارع المحافظة    أسعار الحديد والأسمنت اليوم الاثنين 16-6-2025.. هبوط كبير تجاوز 900 جنيه    رئيس جهاز حماية المستهلك يلتقي وزير الطيران المدني لبحث سُبل التعاون بين الجانبين    إعلام عبري: مقتل 4 إسرائيليين جراء إصابة مباشرة بصاروخ إيراني في بيتح تكفا    وصول بعثة الأهلى لفندق الإقامة فى نيوجيرسى.. صور    ليس تريزيجيه.. ميدو يحمل هذا اللاعب مسؤولية إهدار ركلة جزاء الأهلي ضد إنتر ميامي    وزير الثقافة يشهد العرض المسرحي «كارمن» بمسرح الطليعة ويشيد بصناعه | بالصور    منتخب السعودية يستهل مشواره في الكأس الذهبية بالفوز على هاييتي بهدف    ميدو يتحدث عن أمنيته ل الأهلي في كأس العالم.. ويوجه رسالة بشأن زيزو (فيديو)    مدرب بالميراس: مباراة بورتو ستساعدنا على التحضير لمواجهة الأهلي    قوات الحرس الثورى الإيرانى تُسقط 3 طائرات إسرائيلية فى زنجان وسنندج    ترامب: بوتين مستعد للوساطة.. واتفقنا على إنهاء التصعيد في الشرق الأوسط    الضربة الاستباقية الإسرائيلية ضد إيران بين الفشل والنجاح    عادل عقل: تعادل بالميراس وبورتو يشعل مجموعة الأهلى.. وفوز كبير للبايرن بمونديال الأندية    وسائل إعلام إسرائيلية: عدة مواقع في تل أبيب تعرضت لدمار كبير    إيران تشن أوسع هجوم صاروخي على إسرائيل حتى الآن    أحمد السقا يرد على تهنئة نجله بعيد الأب.. ماذا قال؟    ارتفاع قتلى الهجوم الإيراني على إسرائيل إلى 16 قتيلا    3 أيام متواصلة.. موعد إجازة رأس السنة الهجرية للموظفين والبنوك والمدارس (تفاصيل)    مراجعة اللغة الفرنسية الصف الثالث الثانوي 2025 الجزء الثاني «PDF»    انكسار حدة الموجة شديدة الحرارة.. الأرصاد تعلن مفاجأة بشأن طقس الساعات المقبلة    فيديو.. الأمن الإيراني يطارد شاحنة تابعة للموساد    مجموعة الأهلي.. نتيجة مباراة بالميراس وبورتو في كأس العالم للأندية    نجوى كرم تطلق ألبوم «حالة طوارئ» وسط تفاعل واسع وجمهور مترقب    بعد تعرضها لوعكة صحية.. كريم الحسيني يطلب الدعاء لزوجته    أحمد سعد يشعل حفل الجامعة الأمريكية، ويحيي الأوائل    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. الأثنين 16 يونيو 2025    إمام عاشور: أشكر الخطيب.. ما فعله ليس غريبا على الأهلي    وفاة تلميذ متأثرًا بإصابته بلدغة ثعبان في قنا    صرف الخبز البلدي المدعم للمصطافين في عدد من المحافظات    حريق داخل مدينة البعوث الإسلامية بالدراسة    مصرع طفلتين في حريق بمنزل أسرتهما بالزقازيق    ضبط موظف تحرش براقصة أرجنتينية في العجوزة والأمن يفحص    تنسيق الجامعات 2025.. تفاصيل الدراسة في فارم دي صيدلة إكلينيكية حلوان    شركة مياه الشرب بكفر الشيخ تُصلح كسرين في خط مياه الشرب    ختام فعاليات اليوم الأول من برنامج "المرأة تقود" بكفر الشيخ    بى إس جى ضد أتلتيكو مدريد.. إنريكى: نسير على الطريق الصحيح    ليلى عز العرب: كل عائلتى وأصحابهم واللى بعرفهم أشادوا بحلقات "نوستالجيا"    لا تسمح لطرف خارجي بالتأثير عليك سلبًا.. توقعات برج الجدي اليوم 16 يونيو    حدث بالفن | وفاة نجل صلاح الشرنوبي وموقف محرج ل باسكال مشعلاني والفنانين في مباراة الأهلي    رصاص في قلب الليل.. أسرار مأمورية أمنية تحولت لمعركة في أطفيح    أمين الفتوى: الله يغفر الذنوب شرط الاخلاص في التوبة وعدم الشرك    هل الزيادة في البيع بالتقسيط ربا؟.. أمين الفتوى يرد (فيديو)    عانى من أضرار صحية وتسبب في تغيير سياسة «جينيس».. قصة مراهق ظل 11 يوما دون نوم    سبب رئيسي في آلام الظهر والرقبة.. أبرز علامات الانزلاق الغضروفي    لدغة نحلة تُنهي حياة ملياردير هندي خلال مباراة "بولو"    صحة الفيوم تعلن إجراء 4،441 جلسة غسيل كلوي خلال أيام عيد الأضحى المبارك    الثلاثاء.. تشييع جثمان شقيق الفنانة لطيفة    عميدة إعلام عين شمس: النماذج العربية الداعمة لتطوير التعليم تجارب ملهمة    "نقل النواب" تناقش طلبات إحاطة بشأن تأخر مشروعات بالمحافظات    3 طرق شهيرة لإعداد صوص الشيكولاتة في المنزل    وزير الشئون النيابية يحضر جلسة النواب بشأن قانون تنظيم بعض الأحكام المتعلقة بملكية الدولة في الشركات المملوكة لها    بوستات تهنئة برأس السنة الهجرية للفيس بوك    تنسيقية شباب الأحزاب تحتفل بمرور 7 سنوات على تأسيسها.. وتؤكد: مستمرين كركيزة سياسية في الجمهورية الجديدة    جبل القلالي يحتفل بتجليس الأنبا باخوميوس أسقفًا ورئيسًا للدير (صور)    بمناسبة العام الهجري الجديد 1447.. عبارات تعليمية وإيمانية بسيطة للأطفال    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بونابرت..
في أحدث طبعة للطاغية,1]
نشر في الأهرام اليومي يوم 08 - 06 - 2013

غالبا ما يخضع السكرتير الخاص أو رجل البلاط المقرب للإغراء المادي اللحوح فيذيع أسرارا مكثت طويلا في طي الكتمان,
ويكشف عن فضائح تعهد لصاحبها بأن يصحبها معه إلي المقبرة, وينزع أقنعة لوت عنق الحقائق كان شاهدا ومشاركا في وضعها, ويقول ما لم يقل من داخل أروقة القصور وفي حجرات النوم كان مؤتمنا علي ما يدور فيها في حياة الإمبراطور والزعيم والملك والقائد والرجل الكبير... أحدث ما تقرأه فرنسا هذه الأيام المذكرات الشخصية التي كتبها بخط يده دي بوريان سكرتير نابليون بونابرت الخاص وصديقه الحميم وزميل الطفولة في جزيرة كورسيكا, وكان قد باعها للناشر دفوكا ببروكسل عام1828 عندما هرب إليها خالي الوفاض مطاردا من أصحاب الديون التي تراكمت عليه من جراء خساراته المتتالية في لعب القمار, مما دفعه للشروع في الانتحار وهو لم يبلغ التاسعة والخمسين, لكن عرض دفوكا المغري بمبلغ60 ألف فرنك جعله يعدل عن إزهاق روحه مقدما للمشتري بعد تردد لم يطل كثيرا أدق أسرار الصديق, إلا أن أسرة بونابرت فور سماعها بالصفقة اللاأخلاقية قامت بدفع مبلغ وقدره مليون فرنك للاستيلاء علي تلك المذكرات وإخفائها عن أعين الفضوليين لتظل داخل الأدراج الخاصة تتوارثها الأجيال والحكومات حتي آن الأوان لظهورها هذه الأيام مع العديد من اللوحات المصاحبة التي لم تر النور من قبل.. وتعود أهمية تلك المذكرات إلي أن دي بوريان كان صديقا حميما لبونابرت منذ أيام الدراسة الأولي وظل نابليون يتخذه أمينا لأسراره ويوليه ثقة بلا حدود, وكان من عادة دي بوريان كتابه أحداث يومه ساعة بساعة دون أن يخطر بباله يوما أن عينا دخيلة ستقع علي ما كتبه في لحظة توحده مع القلم بعيدا عن الأنظار, وكثيرا ما كان بونابرت يستدعيه أكثر من مرة أثناء الليل ليسر إليه أمورا طرأت علي خططه أو شاهدها في أحلامه, وعندما كان يستدعيه في الفجر كان بوريان يدرك تماما أن أمرا جللا قد حدث ويوشك نابليون أن يعلن فيه القرار النهائي.. ورغم تفاني السكرتير في عمله الذي تميز فيه بحكم إجادته للعديد من اللغات مما كفل له القيام بدور المترجم في لقاءات نابليون بسفراء وملوك البلاد الأخري, إلي جانب إجادته التامة بفنون الإدارة ومواد القوانين, فقد نال خصومه منه بعد طول تآمر لدي الإمبراطور بتقديم وثيقة تكشف عن تكسبه من منصبه في أعمال غير مشروعة مما أثار عليه حفيظة بونابرت ليطرده من القصر خالي الوفاض مكانة وشرفا, إلا أنه بعد سقوط الإمبراطورية استطاع أن يشغل منصب الكاتب الخاص للمسيو دي فيلال رئيس الوزراء في عهد الملك لويس الثامن عشر, وكان قد ظل في الخفاء يقوم بزيارة جوزفين زوجة بونابرت الأولي التي كانت تكرم وفادته لوقوفه إلي جانبها ضد الزوجة الثانية ماري لويز التي حاول بونابرت حتي النهاية تجاهل أمر خيانتها له أثناء غيبته الكبري لمدة مائة يوم في حروب الشرق.
في صفحات التاريخ التي كتبها شاهد عيان حول نابليون الحقيقي ذكر دي بوريان: أن جميع الفنانين الذين قاموا برسم بونابرت في لوحاتهم أو صنعوا له التماثيل الرخام والنصب التذكارية لم يستطيعوا الوصول إلي أعماق رجل لم يكرره التاريخ والذي كان أفضل الألقاب إلي قلبه عضو الجمعية العلمية الوطنية أو التقاط انعكاسات جذوته الحقيقية الخفية التي تجعله متفردا, فليس معني إظهار جمجمته الناتئة وجبينه المصعر وهيئته المفكرة ووجهه الشاحب وذراعه المندسة تحت ملابسه الرسمية أنهم قد نجحوا في عملهم, فلم يصل أحد منهم بمهارته إلي التقاط إحدي تلك النظرات التي تحركها من داخله إرادة أسرع من البرق يتحول فيها نظره الثاقب في لحظة من اللين إلي القسوة, ومن الترهيب إلي المجاملة, ومن الحميمية إلي البغضاء, فيبدو مع كل التفاتة إنسانا مختلفا تماما, وكانت له يدان ناعمتان يفتخر بهما ويخصهما بعناية فائقة ويقتني من أجلهما زجاجات عطرية من صناعة الشرق يصفها تبعا لأهميتها وتأثيرها علي رفوف حمامه, وتستطيع بمراقبته الطويلة تصيد نظرات الإعجاب والارتياح البالغين إلي تلك اليدين الراقصتين أثناء حديثه.. وكان يزعم بأن له صفين من الأسنان الجميلة الناصعة إلا أنني لم أشاركه هذا الرأي فقد كان له أكثر من ضرس أسود قد نخرها السوس تظهر في فكه السفلي عندما يثور ويكشف عن أنيابه, إلا أن هذا لا يمنعني من الموافقة في أمر يديه المرهفتين.. وكانت له طريقة خاصة في المشي سواء منفردا أو مع آخرين في البيت والحديقة وميدان الحرب.. كان يمشي منكبا إلي الأمام شابكا ذراعيه خلف ظهره, وكانت هناك أكثر من حركة لا إرادية تعتريه بلا ضابط أو رابط أو مناسبة إحداها في كتفه اليمني التي ترتفع وتهبط وحدها, إلي جانب حركة في شفتيه حيث يجمعهما ليميلهما من اليسار إلي اليمين, وكان في غالبية الأوقات أكثر ميلا للكتابة بنفسه أو بالإملاء علي بما يجول في خاطره بعد عودته منتشيا من جولات التنزه حيث يكون بعدها مهيئا لفتح شلال الأفكار.. وكان بونابرت صلب العود لا يشعر بالتعب أو الإرهاق مهما يطل به الوقت علي صهوة جواده في ميادين القتال.. وكثيرا ما اضطره الأمر إلي المشي أكثر من6 ساعات متواصلة دون أن تبدو علي ملامحه علامات الإجهاد بينما نتساقط نحن مرافقيه حوله من التعب.. ومن عاداته أثناء تجواله تأبط ذراع مرافقه مستندا إليها مائلا برأسه إلي كتف المرافق متطلعا إلي وجهه عن قرب شديد مما يسبب للمرافق إحراجا بالغا, فالعين في العين والأنف تكاد تلاصق الأنف ورذاذ العبارات يتناثر علي مسطح الوجه, وكثيرا ما كان يقول لي أثناء سيرنا متأبطين حينما كان لم يزل يشغل منصب القنصل الأول: أكثر ما يخيفني يا بوريان أن أغدو مترهلا عندما أبلغ الأربعين فأفقد بذلك نشاطي ولياقتي إلي جانب تشوه مظهري كقائد, فتكويني الجسدي سيغدو بشعا إذا ما ازداد وزني ومن هنا فلابد لي من ممارسة التمرينات البدنية والمشي يوميا لفترات طويلة إلي ما لا نهاية, فنصف تأثير الشخصية القيادية يعود إلي لياقته البدنية... وكان بونابرت شديد الولع بالنظافة والاستحمام أينما كان ويعدهما من الضرورات الملحة في أي مكان يقضي فيه ليلته, وقد تعود أن يمكث داخل حمامه لمدة لا تقل عن ساعتين يوميا كنت أثناءهما أقوم له بقراءة خلاصة ما تقوله الصحف, وبعض المقالات حتي ولو كان فيها هجوما عليه, فقد كانت لديه شراهة لمعرفة كل شيء خاصة الرأي الآخر, وعندما تشتد لهجة المعارض في الهجوم عليه كنت أسمعه يزوم بما يشبه صوت تخفز الأسد عندما يكون علي أهبة الفتك بفريسته, وبونابرت من مواليد برج الأسد فقد ولد في يوم15 أغسطس..1769
ولعل أكثر ما كان يثير غضبته ذلك الاتهام البغيض من أنه مصاب بالصرع, والحقيقة أنني خلال السنوات الإحدي عشرة التي قضيتها إلي جانبه بلا افتراق عنه لم تبد لي أي أعراض تدل علي إصابته بذلك المرض, فقد كان يتحرك أمامي في جميع المناسبات العامة والخاصة سليم الجسم, قوي الأعصاب, متين البنية, اللهم إلا من حركتي كتفه وشفتيه اللاشعوريتين, وقد ادعي الكثيرون أن النوم لم يكن يطرق جفنيه بسهولة فيبقي ساهرا يعد النجوم, إلا أنه زعم باطل فإن بونابرت كان ينام نوما عميقا كالأطفال دونما عقاقير منومة ويوكل إلي غيره أمر السهر, وكان يطلب مني إيقاظه في السابعة صباحا, فكنت سباقا علي غيري في دخول غرفة نومه لإيقاظه بالنداء أولا ثم الهز من بعدها فيرجوني متناعسا: بالله عليك يا بوريان ارحمني ولا تقطع سرد الحلم وامنحني خمس دقائق أخري أصحو فيها بالتدريج لأستطيع التمطي علي راحتيب.. وأطاوعه أمام استجدائه في لحظات ضعفه البشرية, وأعود إليه في الثامنة لأجده جالسا وسط الفراش وقد اكتسي وجهه مرة أخري بملامح الإمبراطور.. و..بالإجمال فإنه كان ينام علي الأقل سبع ساعات يوميا إلي جانب قيلولة لبضع دقائق بعد الظهر.. وقد أبلغني بطريقة غير مباشرة بألا أوقظه لأنقل إلي مسامعه خبرا سارا ففي النهار متسع لإطلاق مشاعر الفرحة, أما إذا ما كان هناك خبر لا يسر فلا مفر من أن أوقظه في الحال لأن كل دقيقة تمر قد يكون لها تبعات ثقيلة.. هذا وكان أثناء وجوده في الحمام يفتح علي الدوام حنفية الماء الساخن الملتهب مما كان يرفع الحرارة بين الجدران إلي درجة تجعل القراءة مستحيلة علي ناظري من جراء البخار الكثيف المتصاعد والحائل بيني وبين الأوراق التي أحملها فأضطر وقتها إلي فتح شريط من الباب لتسريب البخار...( في زيارتي لمدينة ليل الواقعة بين حدود فرنسا وانجلتر في عام2005 قمت بالصعود إلي مبني البلدية الذي يتوسط ميدانها الكبير وكان قد احتله يوما بونابرت وقضي فيه عدة ليال مع عروسه الجديدة ماري لويز, ودخلت حمامه الخاص الواقع في باطن غرفة النوم, حيث كان لون البانيو الأثري قد حولته الأيام إلي لون السناج حتي كاد يختفي داخل الجدران السوداء العتيقة, وعجبت من صغر حجمه وتخيلت ضآلة جسم العريس نابليون بونابرت بداخله)..
وحول برنامج بونابرت اليومي كتب ألصق الناس به في مذكراته الشخصية: كان بمجرد استيقاظه وأخذ حمامه يستدعي إليه وهو لم يزل تحت المناشف خادمه الخاص لحلق لحيته وتسوية شعره بينما يستمع لقراءاتي مبتدئا له بجريدة( المونيتور) وحقيقة أنه لم يكن مهتما إلا بالجرائد الألمانية والإنجليزية, وكان يقول لي أثناء قراءتي للجرائد الفرنسية: يا عزيزي لا ترهق نفسك كثيرا في سطورها وانتقل إلي غيرها فأنا أعرف ما فيها من مجرد عناوينها فهي لا تكتب إلا ما أريده وما يساير هواي ويسبق نقدها الوديع لأعمالي طلب السماح والمغفرة, وكثيرا ما كنت أعجب من كيفية نجاته من شفرة الحلاقة الحادة عندما يلتفت ناحيتي بغتة ليحادثني بينما خادمه منهمك في حلاقة ذقنه أو رقبته أو شعر صدره..
ويستطرد دي بوريان في ذكر أحداث اليوم الطبيعي في حياة بونابرت بقوله: كان بمجرد انتهائه من ارتداء ملابسه يهبط إلي مكتبه بالدور الأول ليوقع العرائض التي أكون قد جهزتها منذ المساء مرتبة تبعا للأهمية, وعندما يحضر الخادم في العاشرة معلنا أن مائدة الإفطار جاهزة يشير ناحيتي لألملم أوراقي لغد ناظره قريب, وكان في الصباح يتناول طبق الدجاج المتبل بزيت الزيتون والبصل مع كأس من النبيذ بينما يحتسي بعد وجبتي الغداء والعشاء فنجانا من القهوة السادة القوية, وأبدا لم يكن يتناول شيئا بين الوجبات, ولا أدري لماذا نسب إليه بعضهم ولعه باحتساء القهوة طوال الوقت, وربما رجع ذلك إلي الوهم المشاع بأنه كان مصابا بالأرق, هذا بينما كان بونابرت إذا ما اضطر للسهر إلي ما بعد الثانية صباحا لا يدني إلي شفتيه سوي فنجان الشيكولاتة الساخنة التي يجبرني علي مشاركته فيها.. وقد ادعوا أيضا أنه كان من المفرطين في التدخين, وردي من أرض الواقع, أنه كان يتناول التبغ علي هيئة نشوق بمقادير لا تذكر يضعها مسحوقا بين أصبعين يرفعهما إلي فتحتي أنفه لتنتابه نشوة وقتية, وقد ظل محتفظا بالكثير من علب النشوق المعدنية الصغيرة المشغولة التي قدمت له كهدايا في مناسبات مختلفة.
وفي سهرات الشيكولاتة كان يحلو له الحديث عن جزيرة كورسيكا ومسقط رأسه في عاصمتها أجاكسيو في منزل بشارع القديس شارل اشتراه والده شارل بونابرت من ثلاثة طوابق, وقبل عودته من مصر أرسل إلي والدته لاتيسيا لترميم ذلك المنزل الذي شاهد مولده ومراحل صباه حيث قضي معها فيه سبعة أيام من29 سبتمبر حتي5 اكتوبر1799 قدم لها فيها هدية عبارة عن مزود لطعام الخيول من العاج وخشب الأبنوس يحتفظ به البيت السياحي الأثري بالجزيرة حتي الآن وقد يأخذنا الحنين الكورسيكي بعيدا لنظل معا نوصف أخلاقيات المواطن الكورسيكي من أن لافتته القناعة والجدية, وأنه ليس بشاعر ولكنه فيلسوف, وهو لا يحلم بل يتروي, والعبارة المثلي التي تعطيه حقه هي قليل الكلام الذي يمكث قاعدا يتفكر, والكورسيكي يحترم نفسه بشدة ويضع نفسه في منزلة أعلي من الآخرين, وله ثقة كبيرة بتفوقه علي من سواه, والمرأة في نظره كائن متدن لا تجالسه حول المائدة, وأموره العاطفية في نطاق السرية التامة لا يشاركه فيها أحد, وكل كورسيكي في بلاده حر وسيد, وجميع أصحاب الأراضي في كورسيكا يشتغلون بالسياسة.. و..الكورسيكي أينما كان يؤثر حمل بندقيته لأخذ الثأر علي رفع أمره إلي القاضي..
ولعل من أكبر سلبيات بونابرت أنه لم يكن مؤمنا بوجود الصداقة, وأيضا لم يكن يشعر بالحاجة إلي الحب, وكم من مرة قال لي: ليس الحب سوي كلمة خاوية طنانة.. أنا لا أحب أحدا.. ربما أشعر بشيء من الحب تجاه أخي يوسف وذلك من قبيل العادة لكونه شقيقي البكري, وأحب أيضا شقيقي دوروك, وأتساءل لماذا أحبه؟!.. ربما لأن طباعه تروق لي, فهو بارد وجاف وصلب وصعب المراس ولم أشهد دموعه مرة واحدة.. ويا صديقي بوريان لندع النساء يبكين فهذا الأمر يعنيهن وحدهن.. إنهن مخلوقات نائحات ودموعهن لا تحرك خلجة واحدة في فؤادي وينبغي للإنسان أن يكون صلبا ثابت الجنان لا تميله العواطف ولا تقصف به أنات النساء, واجعل قولك المأثور الدائم في أي من المشاكل التي تقابلك فتش عن المرأة.. وعندما أستعيد أيامي مع بونابرت أجده دائم التحرش بالآخرين, ولا أصدق تماديه في غضبه الذي يصاحبه عادة إهانات شديدة وسباب متراكم, فإحساسي تبعا لسبر غوره أن جميع تلك الانفجارات كانت معدة مسبقا, وأنه قام بعمل عدة بروفات لها في خياله قبل الخروج بها إلي مسرح الواقع, ومما يؤكد كلامي هذا أنه لم يكن يوجه إلي خصمه كلاما قاسيا محقرا إياه إلا في حضور أحد الشهود, وقد لاحظت أن وجود الشخص الثالث داخل المشهد يزيد من جرأة خطابه وتماديه في القذف بسيل من الإهانات.. وقد لاحظت في طباعه أيضا نفوره من الانفراد بالآخر, فقد كان عند انتظاره لوزير أو جنرال أو زائر هام يقول لي بصوت هامس ابق معي, والحق يقال إن بقائي معه لم يكن القصد منه إذاعه ما قد جري من حوار, فليس من طبعي ولا واجبي الإقدام علي ذلك, وكان هو من جهته يعلم ذلك عني, وربما كان يعتبرني بمثابة الوسادة التي يتكئ عليها عند القيام بمهماته.. وقد كان بونابرت رغم فتوحاته وحروبه يضمر احتقارا بالغا للذين لطخوا أيديهم بدم الملك أثناء الثورة محاولا ألا يظهر كلامه أمامهم مقترنا بالتقزز.. وقد قال مرات كثيرة لكمباساريس أحد زعماء الثورة الدموية وهو يعرك أذنه مدعيا لطف المداعبة: يا عزيزي لو قدر وعاد البوربون لكان الشنق من نصيبك, فكان كمباساريس يدعي الابتسام مكرها, لكن رسالة الكراهية الصامتة المتبادلة تظل معلقة بينهما في الأجواء..
وكان لبونابرت عادات غريبة وذوق متفرد, وعلي سبيل المثال أنه كان يرفع عقيرته بالغناء كلما لقي مقاومة ما, أو شغل خاطره فكر مزعج, ولكن صوته كان قبيحا للغاية خاصة أثناء اندماجه, وكان يجلس إلي مكتبه ويستلقي فوق مقعده إلي الخلف حتي يكاد يقع, وقد نبهته إلي ذلك مرارا وتكرارا, والغريب أنه رغم بلوغه نقطه اللاجدوي من التحذير فإنه لم يقع مرة واحدة, وبينما يكون في هذا الوضع الخطر فإنه يقوم بإفراغ غضبه الكامن في ساعد المقعد الجلدي فيمزقه بسكين لم يكن يستخدمها لغير هذا الغرض, وربما ما كان يزعجني منه أكثر وأكثر عادته في الجلوس علي طرف مكتبي ساندا ذراعه اليسري علي كتفي اليمني مؤرجحا ساقه التي لا تصل إلي الأرض, وبينما يملي علي كلماته يقوم بطرق المكتب بحذائه في توقيت متقارب مما يزعجني أشد الازعاج وكأن كل خبطة تدوي داخل رأسي بهدير يتصاعد جهنميا حتي أكاد ألقيه أرضا.. ودائما ما كنت أهيئ له أقلاما صلبة بأسنان فولاذية تحتمل الضغط المخرب والمشوه لحروف الكتابة لتغدو مهمتي أكثر سهولة في قراءة كلمات وكأنها طعنات فوق الأوراق.. وكان لأصوات الأجراس تأثير غريب علي الصديق الكورسيكي, وحينما كنا نتنزه في قصر المالميزون في الطريق المؤدي إلي سهل روايل كانت أصوات الأجراس تقطع علينا حديثنا فيتوقف عن السير لئلا يشوه وقع كعوبنا انسيابية نغمات الأجراس التي تفعم فؤاده بهجة وتألقا, وكان يبدي استياءه البالغ لأني لا أشاركه تلك المتعة بل قد أبدو متأففا في انتظار نهاية كل ذلك الصخب المعلن في الأجواء!!
وقد جاء في المذكرات التي أزاحت الستار عن جانب من شخصية بونابرت قول كاتبها دي بوريان: لم يكن نابليون مؤمنا بتأثير الأدوية والعقاقير التي يصفها الأطباء, وكان حديثه عن الطب بمثل حديثه عن الفن, حيث تكثر فيهما الافتراضات والتجارب والنتائج وعوامل المزج التي تخرج العمل الفني أو الطبي مبهرا للوجود أو تقضي عليه تماما ليكون مصيره الدفن.. وكان ذا ذاكرة ضعيفة في التواريخ والأسماء إلا أن ذاكرته تجاه الأمكنة كانت حادة للغاية, وأستطيع القول بأن حاسة الشم لديه كانت مرهفة لدرجة أنه كان يربط ذكري الأماكن التي زارها أو خاض حروبها بروائحها المنبعثة عنها.. وكان متذوقا للشعر لكنه لم يكن شاعرا جيدا أو منشدا عذبا فدائما عنده الأوزان مختلة والقصائد مبتورة والنهايات تقف عارية بلا غطاء, وكان معجبا بأشعار كورنايل حتي أنه بعد حضوره رواية سنا همس لي وقد بلغ به التأثر الشعري مداه لو كان كورنايل في عصري لرفعته لمرتبة الأمراء.
وإذا ما اقتربت من فكر بونابرت الديني أستعيد قوله لي ذات يوم: إن عقلي يجعلني أنكر بعض الأمور إلا أن ما بقي لي من تأثيرات حداثتي يلقيني في وهدة الشك.. وكان يحب الإسهاب في الكلام عن الدين, وقد أبصرته مرات عديدة ونحن في مصر بجوار الأهرامات أو علي متن السفينة الشرق يرفع عينيه إلي السماء محدقا في النجوم والكواكب قائلا في هدوء وسكينة: إنهم يتكلمون عن المذهب المادي بلا جدوي.. يا حضرات السادة ارفعوا رءوسكم إلي السماء وتساءلوا من صنع جميع هذه الأشياء.. إنه الإله الواحد.. وأستطيع القول بأنه كان أكثر ميلا إلي الدين الإسلامي معترفا بأن براهين الأئمة المصريين قد أثرت فيه قائلا إن الدين الإسلامي أبسط من الدين المسيحي فقد انتشر في نصف الكرة الأرضية في عشر سنوات بينما الدين المسيحي قد انقضت ثلثمائة سنة لتوطيد أركانه.. وقد زعم مرة أنه صنع من التراب ولما دبت حرارة الشمس في ذلك التراب خلق منه الإنسان.. وسألني مرة: يا عزيزي دي بوريان.. حينما نموت نتواري من الوجود فما هي النفس؟!.. وقال مرة أخري: إن الدين الإسلامي هو أجمل الأديان, وقد تمادي به الكلام في أمور الدنيا والدين ذات مرة إلي حد القول: نحن المسلمين.
دي بوريان الذي كتب عن بونابرت: كان يغمض عينيه عند رؤية البدينات وينفر من الحوامل, ونادرا ما دعا أمثالهن إلي مآدبه, وكان يزعم بأنه إذا ما بقي جامدا في مكانه فإنه لا يأمن السقوط وهذا ما يجعله ميالا إلي التقدم إلي الأمام, وعنده أن العمل بلا قوة وكرامة لا يعد عملا, وأن الحكومات حالما تفقد لمعانها تسقط.. وكان قبل إضرامه لأية معركة يهتم بما يجب عليه أن يفعله في حالة الانكسار أكثر مما يهتم بما يفعله في حالة الانتصار..
بونابرت كان يأنف من الرجوع عن قرار أصدره رغم اعترافه بأنه مخالف للعدالة معتبرا أن في التقهقر مهلكة و.. أبدا لم يقل بونابرت لقد أخطأت وإنما كان قوله كغالبية الطغاة إن هناك أيد خفية تلعب في الظلام!!
لمزيد من مقالات سناء البيسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.