يفوح من أرضها نسيم الجنة.. معبأ بعطر المسك والحنة.. في النوبة, تلون أشعة شمس الأصيل منحنيات الطرق والحارات.. ينساب الضوء علي المدينة, فتشرق وجوه البسطاء بإبتسامة صافية عذبة.. أينما ترسل بصرك تري تباشير الربيع بألوانه الزاهية تتجلي من الأبواب والشرفات.. الجدران هنا لوحات فنية تفيض بالأزرق, والأحمر.. يكسوها القرمزي والأخضر.. تعكس صورتها علي سطح النيل سيمفونية متناغمة من الألوان. رسومات ونقوشات رائعة صاغها النوبي علي البيوت بفطرته, تحمل في طياتها فلسفة خاصة بأقدم شعب سكن علي ضفاف النهر الخالد. هذه البيوت المشيدة بالطين, والمسقفة بالقبب والأقبية, كانت مبعث إلهام للمعماري الرائد' حسن فتحي' في بداية الأربعينيات.. لم ير فيها فقط إحياء للتراث المعماري المحلي للعمارة الشعبية المصرية; بقدر ما وجد فيها أيضا الحل المناسب لتوفير بيت لكل فلاح فقير في الريف المصري بتكلفة اقتصادية منخفضة تناسب دخل هذا الفلاح. في تجربة وحيدة وفريدة, تناولت كل من المصورة' آن باركر' والمحرر' أفون نيل' مجموعة من الرسومات الدينية في كتاب' رسومات الحج'.. من خلاله, نقلا رحلاتهما في قلب النوبة وصعيد مصر حيث توقفا مرارا لتأمل رمزية هذه الرسومات التي تغطي جدران المنازل, وفحص المعاني المختفية وراء رسم وحدات متكررة علي النوافذ والأبواب, وعمل قائمة بأسماء الفنانين المعاصرين. بشكل عام, حرص النوبيون من سكان جنوب الوادي منذ القدم علي زخرفة بيوتهم بصور الزهور البرية والأشكال الهندسية. وهناك من يفضل وضع رسومات لبعض الزواحف التي كانت تحنط في الماضي مثل التمساح علي مدخل باب البيت, إعتقادا منه في خرافة تقول بأنها قادرة علي طرد الشياطين والأرواح الشريرة. بينما ترسم بعض البيوت علي جدرانها صورة صبي يرتدي البدلة العسكرية في إشارة إلي تقدم أحد الأبناء للخدمة العسكرية أو إلتحاقه بالجيش. فيما يتعلق برسومات الحج, فقد اقتصرت- في البداية- علي نقوش بسيطة لا تتعدي اسم الحاج وتاريخ أدائه للفريضة. ثم أقدم بعض الرسامين علي إضافة آيات قرآنية فوق واجهة البيوت. وبمرور السنين, تطورت الرسومات أكثر فأكثر, وأصبحنا نشاهد لوحات للموكب المسافر إلي مكة مرافقا لمحمل كسوة الكعبة الشريفة.. جمل, طائرة, أو سفينة.. رجل يقيم الصلاة أو يقرأ القرآن.. الحرم المكي الذي يطير الحمام فوق مآذنه العالية.. بانوراما من الصور والأيقونات لا حصر لها تجسد إخلاص هذا الشعب لدينه ومعتقداته. علي مدار الرحلة, توصلت' آن' و'أفون' إلي حقيقة أن هذه الرسومات بقدر ما توضح موهبة الفنانين الفطريين الذين رسموها, لكنها تتحلي غالبا بتصورات أكثر التصاقا بالخيالات الشخصية. غير أنه بسبب أشعة الشمس الحارقة والرياح الرملية والأمطار الموسمية, تعاني كثير من هذه الجداريات إلي تحلل ألوانها وضياع معالمها, دون أن يهتم المسئولون بأنها غير قابلة للإصلاح أو الإستنساخ.