أثار قرار حكومة إثيوبيا تحويل مجري النيل الأزرق توطئة للبدء في بناء سد النهضة حالة كبيرة من اللبس والذعر داخل صفوف المصريين لاسيما وأن الخطوة جاءت وقبل ساعات قليلة من صدور تقرير اللجنة الثلاثية الدولية. لقد أحسنت الإدارة المصرية صنعا عندما أرجأت تحديد موقفها من التعامل مع هذا الملف إلا بعد صدور تقرير اللجنة الثلاثية والتوصيات التي آلت إليه. وربما قد يكون من حسن الطالع ما جاء من تسريبات عن أهم ما جاء في هذا التقرير وأبرزها الحديث عن وجود نقاط اتفاق كثيرة بين الدول الثلاث, فضلا عن وجود بعض الأمور الغامضة التي تحتاج لمزيد من البحث والدراسة لمعرفة تداعياتها علي دولتي المصب. لكن النقطة الأهم في التقرير هي تلك المتعلقة بالتوصية باستمرار التفاوض بين الدول الثلاث. وهو ما يعني أن مثل هذه القضايا المهمة يمكن أن تخضع للتفاوض لاسيما وأن الضرر الذي قد يقع علي دولتي المصب سيكون في مساحة ملء الخزان والتي لا تزيد في أسوأ التقديرات علي25 مليار متر مكعب ستخصم مناصفة من حصتي مصر والسودان. هذه الكمية يمكن أن يتم التفاوض بشأن فترة ملئها, بحيث يمكن أن تتراوح بين ثلاث سنوات وسبع سنوات حتي لا يتأثر كلا البلدين بالنسبة المحتجزة سنويا, كما ان فترة الضرر ستكون لمرة واحدة فقط, كما يمكن أن تكون في أوقات الفيضان. وبمعني آخر فإن هناك طرقا عديدة للبحث في كيفية تقليل الأضرار التي قد تقع علي البلدين, ناهيك عن إمكانية البحث عن سبل أخري للتعويض مثل بناء سدود اخري لتخزين الكهرباء تسمح لمصر والسودان من الاستفادة من مياهها. ومعني هذا أن الإدارة المصرية عليها تغليب لغة الدبلوماسية أولا في التعامل مع موضوع سد النهضة لاسيما وأن السد ربما تعترض بناؤه عقبات جيولوجية قد لا تجعله يكتمل بسبب الطبيعة البازيلتية في المنطقة المحيطة به والتي تجعله عرضة للانهيار من ناحية كما حدث لأحد السدود الإثيوبية قبل فترة وجيزة, فضلا عن إمكانية وقوع زلازل بسبب عدم تحمل هذه التربة الرخوة لضغط المياه, ناهيك عن عقبات التمويل التي قد تصل إلي ثمانية مليارات دولار تتحمل الحكومة الإثيوبية النسبة الأكبر منها لاسيما بعد رفض البنك الدولي عملية التمويل, وإذا علمنا ان اديس أبابا عاجزة حاليا عن توفير ملياري دولار لاستكمال بناء سد آخر, لأدركنا ضرورة التريث من ناحية, والتعامل بقدر كبير من الدبلوماسية الناعمة من ناحية ثانية.إن موضوع سد النهضة يشير إلي أن العلاقات مع إثيوبيا تحتاج لعمليات ترميم واسعة في شتي المجالات لإزالة الصورة الذهنية السلبية من ناحية, وللحد من تأثير الطرف الثالث إسرائيل من ناحية ثانية. وفي هذا الصدد يمكن تصور ملامح استراتيجية مصرية للتعامل مع إثيوبيا علي النحو التالي: علي الصعيد الاقتصادي يتطلب الأمر ضرورة التغلب علي عقبات الاستيراد من إثيوبيا خاصة في مجال اللحوم حيث هناك مجموعة من المشكلات في هذا الصدد أبرزها النقل, عدم وجود محاجر طبية, قلة عدد المجازر. وبحث سبل دعم الاقتصاد الإثيوبي بحيث لا يعتمد فقط علي تصدير الطاقة التي تدر دخلا كبيرا في موازنة البلاد لصالح قطاعات أخري يمكن أن تعود بالفائدة المشتركة علي البلدين, ومن ذلك قطاع النسيج والملابس الجاهزة, فضلا عن تصدير اللحوم ومنتجات اللحوم, علاوة علي الثروة السمكية. وضرورة التنسيق مع رجال الأعمال المصريين ووضع محددات معينة لهم بما يخدم السياسة الخارجية المصرية, ومن ذلك إمكانية قيام هؤلاء بالمساهمة في تنمية المجتمعات المحلية ليس في جنوب السودان فحسب, وإنما في إثيوبيا أيضا من خلال إنشاء المساكن الشعبية, المستشفيات, مراكز الشباب الي ما غير ذلك د. أماني الطويل, نحو مسار جديد للعلاقات المصرية الإثيوبية, الأهرام,8 مايو2011. أما علي الصعيد السياسي فينبغي التأكيد المصري علي عدم دعم قوي المعارضة في إثيوبيا خاصة الأوجادين, حتي لا تتكرر لهجة التهديدات الإثيوبية لمصر كما حدث في نوفمبر الماضي, عندما هدد زيناوي بعدم قدرة مصر علي كسب حرب ضد بلاده, متهما إياها بدعمها لقوي المعارضة.. ويرتبط بذلك إبداء الاستعداد المصري للعب دور الوساطة مع إريتريا, كما حدث عام2004 عندما طلبت إثيوبيا الوساطة المصرية مع دول حوض النيل, وهنا قد يكون من المفيد أيضا تحسين العلاقات المصرية مع إريتريا, والتأكيد علي أن ذلك لن يكون خصما من رصيد العلاقات المصرية مع إثيوبيا, بل يمكن أن يشكل إضافة لها حال قيام مصر بالوساطة بين الجانبين, فضلا عن أن المنفذ الإريتري علي البحر الأحمر هو المنفذ الأهم لعملية التبادل التجاري بين البلدين مقارنة بالمنفذ الجيبوتي, كما أن المساهمة المصرية في إعادة بناء دولة الصومال علاوة علي التنسيق مع السعودية, وفي المقابل توطيد العلاقة مع دول وسط وغرب إفريقيا المجاورة لدول الإقليم, كل هذا يجعل مصر فاعلا قويا يجعل إثيوبيا تفكر كثيرا قبل التصعيد معه. وأخيرا وليس آخرا هناك الدور المهم لمؤسستي الأزهر والكنيسة.. فالسد سيبني في منطقة بني شنقول الذين لهم روابط تاريخية قوية مع مصر, كما أن لمصر روابط تاريخية مع شمال إثيوبيا حيث التيجرانيون, ناهيك عن ان اغلبية الأورومو المسلمة لها ارتباط وثيق بالأزهر. وهو ما قد يجعل دور الأزهر فاعلا في هذا الشأن, فضلا عن دور الكنيسة حيث إن الكنيسة الاثيوبية كانت تابعة للكنيسة المصرية منذ القرن الرابع الميلادي.. صحيح أن بعض الاضطراب ساد هذه العلاقة, لكنها بدأت في التحسن التدريجي مؤخرا.. لمزيد من مقالات بقلم : د. بدر حسن الشافعي