أظن أنه يمكن القول بأن عام1988 هو بداية ز صراع ثقافاتس بديلا عن صراع الطبقات وسبب ذلك مردود إلي ما انطوي عليه المؤتمر الذي انعقد في سبتمبر من ذلك العام بجامعة شمال كارولينا تحت عنوان مستقبل التربية الليبرالية. والسؤال اذن: ما هذا الذي انطوي عليه ذلك المؤتمر؟ إنه لحظة كراهية علي حد تعبير جريدة نيويورك تايمز. وهذه اللحظة كان قد أشار إليها الأديب الانجليزي جورج أورول(1903-1950) في روايته الشهيرة والمعنونة1984 عندما دعا المواطنين إلي تشويه صورة انسان اسمه جولدشتاين. كان مع الثورة ثم أصبح عدو الثورة فحكم عليه بالاعدام ولكنه استطاع الهرب واختفي. والسؤال اذن: اذا كان جولدشتاين يعبر عن لحظة كراهية في رواية1984 فما هي لحظة الكراهية التي كان يشير إليها ذلك المؤتمر؟ إنها مرتبطة بفيلسوف أمريكي اسمه ألان بلوم أستاذ الفلسفة بجامعة شيكاغو وأحد المشاركين ولكنه كان في رأيهم يقف في مقدمة أعداء الانسانية أو بالأدق في مقدمة المحافظين الجدد. والسؤال اذن: لماذا هو كذلك؟ جواب هذا السؤال وارد في كتاب له نشره في عام1987 تحت عنوان انغلاق العقل الأمريكي وكان حينها موضع اهتمام من الصحافة الأمريكية, إذ بيع منه نصف مليون نسخة. والسؤال بعد ذلك: ما هو مضمون ذلك الكتاب؟ مقارنة بين حالة الجامعات الأمريكية في الخمسينيات من القرن الماضي وحالتها في الستينيات. في الحالة الأولي كانت هي الأفضل, إذ كان لديها نوابغ محليون ومهاجرون قادمون من دول محكومة بدكتاتور, وكان الطلاب يستمتعون بالمغامرة مع الجدية. أما في حالتها الثانية فانها تعاني من انحلال الحضارة الغربية بسبب التركيز علي الجنس والكراهية وتحرير المرأة مع اشتهاء الشباب في تحقيق المساواة. وكل هذه الدعوات تتم في اطار التفكير النسبي الذي تموج به الفلسفات المعاصرة وبالذات الفلسفة التي تنشغل بتحليل اللغة العادية وكذلك الفلسفة التي تستبعد العلوم الاجتماعية والانسانية من مجال الفلسفة بدعوي أن قضاياها لا مقابل لها في الواقع الحسي. وحيث إن هذه الفلسفات صادرة عن التنوير الذي يزعم أن المجتمع العادل يمكن أن يتأسس علي المنفعة الذاتية وحدها فقد انتهي الأمر إلي فراغ في القيم وإلي تحكم الجماهير البربرية. ومن هنا قيل عن كتاب بلوم إنه أول رصاصة في صراع الثقافات, وقيل عن بلوم إنه غبي. وكان هذا هو رأي أغلبية المشاركين في ذلك المؤتمر. ومع ذلك فلم يكن آلان بلوم واقفا لوحده بل شاركه أستاذ النقد الأدبي بجامعة ييل واسمه هارولد بلوم. وله مؤلف عنوانه شريعة الغرب(1994) يرفض فيه التوافق إذ كان عنيدا وترتب علي عناده رفضه لتيار تحرير المرأة وللفلسفة الماركسية ولتعدد الثقافات. وهذا الرفض مردود إلي تجاهل القيمة الجمالية في الحياة. وهذا التجاهل في ذاته مأساة لأن تلك القيمة قائمة بذاتها ولا يمكن أن ترد إلي أي ايديولوجيا. والذي يلتزم بها هو المتوحد. ومزية المتوحد أنه يرفض أن يكون مجرد شخص في مجتمع لأنه لا ينشغل إلا بذاته الكامنة في أعماقه والتي لا شأن لها بمن يدور حولها إلا إذا كان شكسبير أو جوته أو موليير. وفي عام1996 تبلور الهجوم علي كل من ألان وهارول في كتاب أصدره لورانس ليفين أستاذ التاريخ بجامعة كليفورنيا عنوانه انفتاح العقل الأمريكي. وواضح من العنوان أنه علي النقيض من كتاب ألان بلوم انغلاق العقل الأمريكي. وجاء في كتاب ليفين أن الصراع حول الشريعة لم يكن معاصرا إذ هو متواصل منذ مائة عام, والغاية منه توسيع الشريعة بحيث تستوعب الاحتياجات المتباينة للأجناس المقيمة بأمريكا وبذلك لا تقف عند ماض متخيل بل ماض ليس له وجود لأن البنية الاجتماعية في حالة تغير ويمتنع معها الثبات. وذات يوم سألت الفيلسوف الأمريكي المتميز ريتشارد دي جورج أستاذ الفلسفة بجامعة شيكاغو والذي كان متفرغا أثناء الحرب الباردة في تعريف المثقفين الأمريكان بأبعاد الفلسفة السوفييتية. قلت: هل ثمة احتمال في أن يحدث انقلاب أو ثورة في أمريكا؟ أجاب: أمر مستبعد تماما لأن أمريكا تتمثل كل الثقافات الوافدة مع المهاجرين, وبذلك تكون النسبية هي الفكرة السائدة, ومع النسبية يمتنع التعصب ومن ثم يمتنع توهم امتلاك الحقيقة المطلقة. سألت: ولكن ما العمل إذا امتنع المهاجر عن تمثل النسبية؟ لمزيد من مقالات مراد وهبة