فتحت واقعة اختطاف سبعة جنود في سيناء موضوع هيبة الدولة, ومفهوم دولة القانون, والعلاقة بين السلطة والحريات العامة. وقد يكون من المفيد في هذا الصدد استدعاء بعض الأفكار الأساسية في السياسة وخاصة فيما يتعلق بالعلاقة بين السلطة السياسية والحريات العامة. فالإنسان يرنو بطبيعته البشرية نحو الحرية( متي استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا). وربما كان الفليسوف توماس هوبز هو أول من أشار في الفكر الحديث إلي العلاقة بين الحريات الفردية من ناحية والسلطة من ناحية أخري. وقد ظهر كتابه في النصف الاول من القرن السابع عشر في ظل الملكية الإنجليزية المطلقة. ورغم أنه بدأ تحليله بالاعتراف بحقوق وحريات الأفراد, فقد انتهي للغرابة إلي تأييد الحكم المطلق. واستند في تحليله إلي أن الأفراد كانوا يعيشون في حالة من الفطرة غير المقيدة, قبل ظهور الدولة السياسية, وذلك في ظل نوع من البدائية والوحشية, وحيث يسيطر القوي ويخضع الضعيف, والكل في حالة خوف وفزع من الآخرين, فالكل في حرب ضد الكل. وبنوع من التوافق الضمني تنازل الأفراد عن بعض حرياتهم وحقوقهم للحاكم أو الملك لضمان بقية حقوقهم من خلال القانون الذي يفرضه الحاكم علي الجميع. وبذلك, فإن القانون يحدد الحريات ويمنع الاعتداء عليها ويعاقب من يتعرض لحقوق الآخرين. وهكذا, فإن الحقوق والحريات تتطلب سلطة سياسية تفرض علي الجميع إحترام حقوق الأفراد وحرياتهم. ولكن ما هي حدود سلطات الحاكم إزاء شعبه؟ هنا انتهي هوبز إلي تلك النتيجة الغريبة, وهي أن سلطات الحاكم ينبغي أن تكون مطلقة, وأن أي معارضة للحاكم قد تعيد الأفراد إلي مرحلة الفوضي والوحشية أي إلي قانون الغابة. وهو نفس المنطق الذي كنا نسمعه قبل الثورة, حين كان الكثيرون يقرون بأخطاء النظام القائم آنذاك, ولكنهم يبررون ذلك بفزاعة الفوضي. وجاء جون لوك بعد ذلك بعدة عقود خلال مرحلة الثورة المجيدة في إنجلترا, وقدم الفكر الديمقراطي, وإنتقد هوبز في دعمه للحكم المطلق للملك, بحجة الخوف من الفوضي أو العودة للوحشية, مؤكدا أن البديل للإستبداد هو الحكم الدستوري الذي يعترف للأفراد بحقوق وحريات أساسية لا يمكن التعرض لها, وذلك بأن تأتي الحكومة باختيار المحكومين وتخضع لرقابتهم, لضمان هذه الحقوق والحريات. وهكذا تتحقق الحريات وحقوق الأفراد في ظل سلطة القانون وتوقيع الجزاء علي المخالفين. وبذلك تتمتع الحريات بحماية وضمان القانون ولكنه ليس أي قانون, بل القانون الدستوري الديمقراطي, وبما يوفر للحريات أسنانا بل وأنيابا تدافع عنها في شكل القانون الدستوري الديمقراطي. فالحرية دون ضمانات وسلطة تحميها هي مجرد أماني وأحلام, الحرية تتطلب سلطة تحميها وتعاقب كل من تخول له نفسه الإعتداء عليها. وما جاء به لوك من تجديد في الفكر السياسي لم يقتصر فقط علي معارضة الحكم المطلق ورفض القول بأن البديل لهذا الحكم هو الفوضي, بل إن البديل الحقيقي للإستبداد عند لوك هو الحكم الدستوري. وهنا جدد لوك أيضا في مفهوم الديمقراطية نفسه, فقد كان المتوارث عن الفكر الإغريقي, هو أن الديمقراطية هي حكم الأغلبية بصرف النظر عن مضمون القوانين. وهنا أكد لوك أن جوهر الديمقراطية هو احترام حقوق وحريات الأفراد, وأن إجراءات الإنتخابات والأغلبية هي مجرد وسائل لحماية هذه الحقوق والحريات. فالأغلبية لا تملك في أي حال وبأية أغلبية الإعتداء علي الحقوق والحريات الأساسية للأفراد. وهذا هو دور الدستور الذي يهدف بالدرجة الأولي إلي حماية الحقوق والحريات, بل إن هناك نظاما طبيعيا يجاوز القوانين الوضعية في ضرورة إحترام حقوق الفرد وكرامته, وأي تشريع يصدر منافيا لهذه الحقوق والحريات الأساسية هو قانون باطل وغير دستوري. فليس للأغلبية, ولو جاوزت99% من الأصوات, للسماح بالاعتداءعلي الحقوق والحريات الأساسية للأفراد. هناك قانون إنساني لا يجوز لأية سلطة تجاوزه ولو بالأغلبية. ولنتذكر أن هتلر جاء إلي السلطة بعد حصول حزبه في ألمانيا, علي أكبر نسبة من أصوات الناخبين مقارنة بالأحزاب الأخري. ومعروف تاريخ النازي مع الحريات. فالديمقراطية ليست مجرد شكل وانتخابات, بل هي مضمون أيضا باحترام الحقوق والحريات الأساسية للأفراد. وقد تبلورت في العصر الحديث مجموعة من المباديء الواضحة والمستقرة في العالم حول مفهوم هذه الحقوق والحريات, كما ظهرت في المواثيق الدولية. وهكذا يتضح أن الحديث عن الحقوق والحريات ليس حديثا مجردا, بقدر ما يتطلب سلطة سياسية قادرة علي حماية وصيانة هذه الحقوق والحريات. فالدولة المعاصرة هي الضمان للحقوق والحريات, فالحديث عن الحرية دون سلطة قادرة هو أضغاث أحلام. ولذلك لم يكن غريبا أن أكثر الدول احتراما وتقديسا للحرية, هي نفسها أكثر الدول صرامة في تطبيق القانون, واحترام استقلال القضاء, وشدة في معاقبة المخالفين للقانون. كثيرا ما يقال إن الولاياتالمتحدة هي من أكثر الدول ديمقراطية, ولكنها أيضا أعلي الدول في نسبة عدد السجناء المحكوم عليهم في جرائم الإعتداء علي حقوق الآخرين. الحديث عن دولة القانون ليس حديثا عن كثرة القوانين والتشريعات, وإنما هو حديث عن الصرامة في تطبيق هذا القانون مع التأكد بأن هذا القانون لا يخالف المباديء الدستورية المستقرة في حماية الحقوق والحريات. وأخيرا فلا ينبغي أن ننسي أن التخاذل في تطبيق القانون علي المعتدين علي الحريات لا يعني فقط ضياع هذه الحقوق والحريات, ولكنه يعني أيضا سقوط هيبة الدولة نفسها بل وتحللها. وعندما نتحدث عن هيبة الدولة فإننا لا نقصد فقط السلطة التنفيذية, ولكننا نشير أيضا إلي السلطة القضائية القائمة علي تطبيق القانون, فهذه أيضا من أهم عناصر احترام هيبة الدولة. ومع سقوط هيبة الدولة نعود من جديد لقانون الغابة والفوضي. ومن أسف فقد بدأنا نسمع في الفترات الأخيرة تعريضا بالقضاء دون تقديم وقائع محددة وواضحة, ودون سلوك الطريق الطبيعي لتحقيق هذه الإتهامات. هذا هدم لمؤسسات الدولة, وهو أشبه باللعب بالنار. لا وجود للحقوق والحريات دون سلطة قوية وقادرة علي تنفيذ القانون, ولا سلطة قوية دون دولة رشيدة تراعي القانون وتخضع له, ولا قانون سليم دون احترام المباديء الأساسية المستقرة في الضمير العالمي عن حقوق الأفراد وحرياتهم, وأخيرا فلا احترام كاف للمباديء الأساسية للحريات دون قضاء مستقل ونزيه. وبهذا فقط تعود هيبة الدولة. والله أعلم. لمزيد من مقالات د.حازم الببلاوي