من يتأمل المشهد المصري يكتشف أن السلطة ليست هي المأزومة فقط في بلادنا بل المجتمع يبدو أيضا حائرا. أخطر مظاهر الحيرة هو التناقض الهائل في المرجعيات الحاكمة لانتماءات المصريين. لم يعد هناك جامع فكري مشترك يحقق التجانس الاجتماعي والوطني المطلوب. انظر إلي مظاهرات القوي والأحزاب السياسية المختلفة في الميادين وتأمل مطالبهاوشعاراتها وقارن ملابس وأزياء المشاركين فيها. تكاد تشعر ان هذه المظاهرات أو المليونيات تجري في مجتمعين أو بلدين مختلفين من شدة التناقض بينهما. يكاد المجتمع المصري يتحلل إلي مجتمعات متنافرة في القيم والمرجعيات. بطبيعة الحال لا نقصد بالتجانس الاجتماعي المطلوب ان يصل الأمر إلي حد التطابق. ففي كل مجتمعات العالم ثمة شرائح وطبقات اجتماعية ومهنية وثقافية تختلف في اهتماماتها وقيمها وانتماءاتها. وهذا أمر مفهوم كحقيقة سوسيولوجية. لكن ما نشهده في المجتمع المصري أمر آخر. عشية اندلاع ثورة25 يناير كانت مصر قد تحولت إلي( أمصار). هناك مصر المرفهة المنعزلة في المنتجعات الراقية التي قد لا تشكل1 أو2% من عدد سكانها وهناك مصر الكادحة الساكنة في العشوائيات والقبور والمدن المختنقة متهالكة المرافق. هناك مصر النخبة أكبر مخزن للكفاءات في العالم الثالث وما يقرب من300 ألف من حملة درجة الدكتوراه( رغم التحفظات علي تراجع مستوي هذه النخبة) وهناك مصر أخري ما زالت فيها نسبة الامية تقترب من30% وتدهور نظامها التعليمي بعدما قدمت من خمسين او ستين عاما متخرجين من مستوي أحمد زويل وفاروق الباز ومجدي يعقوب ومصطفي السيد وغيرهم. كانت هناك مصر ذات النظام التربوي التعليمي التي زووت اجيالا متعاقبة بمنظومة من القيم الوطنية الجامعة ثم ظهرت مصر التي تنتشر في جنباتها مؤسسات تعليمية خاصة وأجنبية ودينية. كلها تحت مسميات شتي. بعض هذه المؤسسات التعليمية لا يدرس لطلابها تاريخ بلدهم وتتم العملية التعليمية فيها بلغة أجنبية ولا تسمع في قاعاتها اللغة العربية. والبعض الآخر من هذه المدارس وصل الأمر فيها الي حد إحلال بعض الأناشيد الدينية في طابور الصباح محل النشيد الوطني المصري.ووسط هذا الكرنفال التربوي والتعليمي غابت المؤسسة التعليمية الوطنية الجامعة التي كانت تجمع الفقراء مع الأغنياء وأبناء الفلاحين والعمال مع أبناء البرجوازية الوطنية. وكان من الطبيعي ان تفرز مثل هذه الازدواجية التربوية التعليمية ازدواجية في القيم. ويا ليت الأمر يتعلق هنا بقيم التقدم الإنساني مثل التفكير النقدي والحرية والانفتاح فهذه قيم إيجابية ومطلوبة. لكن القيم الجديدة أصبحت تكرس الفرقة والتعصب وانعزال كل فريق مجتمعي خلف ثقافته وتصوراته وعالمه الخاص. ثم كان من الطبيعي ان تفرز ازدواجية القيم هذه ازدواجية أخري أخطر في المرجعيات والانتماءات. كانت أزمة السلطة في مصر قبل ثورة يناير أنها وقعت شيئا فشيئا بين شقي رحي الاستبداد والفساد, أما أزمة السلطة الحالية فتبدو حتي هذه اللحظة المبكرة هي الوقوع في صراع الانتماءات والمرجعيات. لم يعد المأزق في مصر اقتصاديا أو سياسيا فحسب بل أصبح في عمقه مأزق انتماء بين مفهوم الدولة الوطنية والمشروع الإسلامي الأممي. هل المأزق حقيقي ام مصطنع؟ هل هو حتمية دينية ايديولوجية أم تحد مرحلي يمكن تجاوزه بقدر من المراجعة الشجاعة؟ واذا أمكن للإخوان المسلمين تجاوزه وهم الاكثر براجماتية وانفتاحا فهل يمكن للتيارات السلفية المتشددة أن تفعل ذلك؟ تتعدد الاسئلة لكن السؤال المركزي واحد, هل أزمة السلطة هي التي أفضت الي حيرة المجتمع أم ان المجتمع الحائر هو الذي انتج السلطة المأزومة؟ كان الاعتقاد في بلد مثل مصر ان السلطة المأزومة هي التي أوجدت المجتمع الحائر. بدا هذا الاعتقاد صحيحا حتي اندلعت ثورة يناير. وفجأة وخلال ثمانية عشر يوما من بدء اندلاع الثورة حتي رحيل رأس النظام ظهر الشعب المصري في قمة وعيه وترابطه ووحدته. انبثق فجأة في هذا البلد ضمير نقي موحد وجامع لكل المصريين. ثم ما لبث هذا(الضمير) الثوري أن تفتت شيئا فشيئا ليحل محله مجموعة( ضمائر) تعبر بدورها عن مجموعة من القيم والانتماءات. لدينا إذن سلطة مأزومة ومجتمع حائر. أزمة السلطة هي في كيفية التوفيق بين اعتبارات مرجعيتها الدينية الأممية ومتطلبات إعمال مفهوم الدولة الوطنية ناهيك عن مشكلات المعيشة والبطالة والصحة والسكن والمواصلات والتعليم. أما حيرة المجتمع فهي شعور شرائحه وطبقاته بالغربة وقد تباينت المطالب والشعارات واختلفت الملامح والأزياء وتناقضت القيم وتباعدت الانتماءات. كان الله في عون مصر لأن أبناءها لم يكونوا في عونها. لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم