هناك عادة مذمومة منتشرة بين أدعياء التدين عندنا وإن كانت ليست غريبة إذا تفشي الجهل في المجتمع وندرت المعرفة, وهي عادة تكفير الرأي الآخر, أو حتي الرأي الجديد لمجرد أنه جديد. وقد كانوا في السابق يرفعون شعار عليك أن تؤمن بما أؤمن به, وإلا لعنك الله وهو الشعار الذي تحول الآن: عليك أن تؤمن بما أؤمن به وإلا قتلتك! وليس لك أن تناقش أو تفكر بل عليك أن تطيع طاعة الدواب; وقف الحجاج بن يوسف علي المنبر يقول والله لو أني أمرت أحدا أن يخرج من باب من أبواب المسجد, فخرج من الباب الذي يليه لضربت عنقه!. فشبوا علي كراهية أهل الرأي, وكانوا أشبه بأهل مدينة أفسس اليونانية التي قال فيهم الفيلسوف هيراقليطس إنهم أعتادوا القول أننا لن نستبقي بيننا أحدا من الفضلاء, فإن وجد فليذهب إلي مكان آخر, وبين قوم آخرين! وهذا هو شعار أهل التدين الزائف لا يريدون أحدا من أهل العلم والفضل ولماذا لأنه كافر أو ملحد زنديق وهي أبسط وأسرع تهمة يقذفونه بها ولم يفلت منها عالم أو مفكر أو باحث وعلي رأسهم أستاذنا العظيم عبدالرحمن بدوي ألم يكتب الزمان الوجودي؟ ألم يعلن صراحة أنه فيلسوف وجودي؟ ومتي كانت الفلسفة الوجودية إلحادا؟! ألم يكن مؤسسها سرن كيركجور(18551813) أحد أقطاب الفكر الديني في الدانمارك في القرن التاسع عشر؟ ألم يحاول تحليل الذات البشرية وإنتهي إلي أنها ثلاثة أنواع تبدأ من الذات الحسية( أو الجمالية كما يسميها أحيانا) ثم الذات الأخلاقية, وأعلاها الذات المؤمنة؟!. عبدالرحمن بدوي الذي نقل إلينا التراث الإسلامي من الفرنسية والألمانية, والإيطالية.. إلخ يكتب بالفرنسية في نهاية حياته دفاع عن القرآن ضد منتقديه, نقله إلي العربية الأستاذ كمال جاد الله] ويصدر الدكتور بدوي كتابه بالآية الكريمة: إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب...(88). يبدأ بها المؤلف هو كلمة أمي خاصة حين يوصف بها النبي: الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر....( الأعراف157).. وتطلق كلمة أمي علي الأميين في الآيات القرآنية: هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته....( الجمعة-2). قال تعالي: ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب....( البقرة-78). وعلينا أن ننظر أولا في الحالة الأولي وهي كلمة أمي التي تصف النبي محمدا, فنجد أن التفسير الأكثر إعتمادا لدي مفسري القرآن الكريم واللغويين هو ما جاء في لسان العرب محمد نبي الله وصف بأنه أمي لأن الأمة العربية لم تكن تعرف القراءة ولا الكتابة, فأرسل الله لهم رسولا من أنفسهم لا يقرأ ولا يكتب, وكانت هذه إحدي معجزاته حيث كان يتلو عليهم كتاب الله مباشرة من الوحي الذي يبلغه عن الله عز وجل دون تغيير أو تبديل لكلماته. بينما كان الخطيب من العرب يعتمد علي الإضافة أو الحذف في أي خطاب يعيده مرة أخري. ولقد أقتضت حكمة الله أن يظل كتابه محفوظا لا دخل لنبيه فيما نزل منه. وأخيرا عن الذين أرسلهم قبله وهو ما يتميز به عنهم, وأنزل عليه بمناسبة ذلك قوله تعالي: وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون.( العنكبوت48). نستنتج من هذا الإستشهاد ما يلي:- أن النعت أمي تعني من لا يقرأ ولا يكتب. أنها من كلمة أمة وتعني أمة العرب, حيث كانت هذه الأمة في مجملها أمية, ولسان العرب يؤكد هذه الفكرة أكثر بقوله: كان العرب يسمون بالأميين لأن الكتابة كانت لديهم نادرة أو غير موجودة وأستشهد بالحديث الشريف بعثت إلي أمة أمية. وهناك معني آخر يورده لسان العرب للفظ أمي وأميون وهو معني ينطبق أكثر علي الأمم, ويقول أحد علماء اللغة الأمي هو الذي يظل كما ولدته أمه أي لم يتعلم الكتابة فهو أمي لأن الكتابة صنعة مكتسبة, وهو في هذه الحالة ظل كما ولدته أمه, وتبعا للمعني فإن كلمة أمي جاءت من كلمة أم ونحن هنا أمام أصلين لهذه الصفة أمي الأول أمي مصدرها من أمة. والثاني:- أمي مصدرها من الأم. وكلا الأصلين للكلمة يمكن أن يقبل من الناحية النحوية وليس هناك مشكلة في هذا الصدد, ولكن من ناحية المعني هناك إختلاف كبير ينشأ عن إستخدامنا للأصل الأول أو الأصل الثاني, لأن الأصل الثاني للكلمة أمي مشتقة من الأم يسمح لنا أن نقصد بكلمة أمي من لا يقرأ ولا يكتب, أما الأصل الأول للكلمة أمي مشتقة من أمة فهو لا يسمح لنا أن نقصد بهذه الكلمة من لا يقرأ ولا يكتب. ولذلك يري الدكتور بدوي أن الذين يظنون أن معني كلمة أمي التي يوصف بها النبي- أنه ينتمي إلي الأمة العربية يخدعون أنفسهم لأنه من الزيف أن نقول: إن الكتابة كانت نادرة أو معدومة عند العرب من ناحية, ومن ناحية أخري فإن كثيرا من الأمم كانت علي نفس شاكلة الأمة العربية في هذه الحالة.. لماذا إذن حصر هذا النعت علي الأمة العربية لتختص به وحدها دون سواها, خاصة أنه يمكن الأعتراض علي هذا استنادا إلي الآيات التي أستدللنا بها في هذه الحالة التي ورد فيها لفظ أمي و أميون للدلالة علي الأمم حيث أن الأمر يتعلق بأمم كثيرة متعارضة أو موازية مع أمتي التوراة( اليهود) والإنجيل المسيحيين أي أهل الكتاب بصفة عامة... ويناقش الدكتور بدوي ما أورده المستشرق نيللنوNallno الذي يذهب إلي أن لفظ أمي مشتق من الأمة العربية, وهذا هو الرأي الذي وجدناه في لسان العرب لابن منظور, ولكن نيللنو- في رأي الدكتور بدوي- أورده مبتسرا دون أن يوضح أن العرب لم يكونوا في مجملهم يعرفون الكتابة أو القراءة.. وعلي هذا فرأي هذا المستشرق لا يمكن أن يقبل علي أي حال لأنه قائم علي أفتراض خاطئ وهو أن محمدا مرسل فقط إلي الأمة العربية كما كان موسي مرسلا إلي شعب إسرائيل, وعيسي مرسلا إلي أمة فلسطين.. إلخ وذلك لأن:- النبي محمد أرسل في عام628 م خطابات إلي ملوك العالم الأربعة في عهده وهم: هرقل الثاني أمبراطور بيزنطة, وكسري أنو شروان ملك الفرس, والمقوقس حاكم مصر, وملك الحبشة, وهذا يوضح بجلاء أن محمدا كانت رسالته عالمية لكل أمم العالم, ولو كان نبيا مرسلا فقط إلي الأمة العربية لما فكر في إرسال هذه الرسائل الأربع إلي حكام العالم المعروفين في ذلك الوقت يدعوهم إلي أعتناق الإسلام هم وشعوبهم. يؤكد القرآن بوضوح أن النبي محمدا مرسل إلي الجنس البشري كله, وبذلك لقوله تعالي: وما أرسلنك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون.( سبأ-28). ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولا وكفي بالله شهيدا.( النساء-79). قل يأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون.( الاعراف 158) فليس من شك في أن النبي رسول الله إلي كل البشر دون تفرقة بسبب الجنس أو القومية أو الحدود أو اللغة واللون. وأن عالمية الرسالة المحمدية حقيقة ثابتة لا مراء فيها. وينتهي الدكتور بدوي إلي تفسير خاص به لكلمة الأمي فيقول: أن كلمة أمي صفة نسب من كلمة أمم جمع أمة, وكما يوضح علم الصرف فإنه لكي تنسب إلي إسم جمع لابد أن نرده إلي المفرد أمة. إذا في رأينا أن كلمة أمي المشتقة من أمم في الجمع المردودة إلي أمة في المفرد تعني عالمين, وصالح, وموجه لكل الأمم. إذا النبي الأمي هو النبي المرسل والموجه إلي كل الأمم أو بمعني أصح: النبي العالمي!. أما عن الأميين بالجمع التي وردت أربع مرات في القرآن الكريم فهي تعني البشر من مختلف الأمم أو كل الأمم. هذا هو عبدالرحمن بدوي الفيلسوف الوجودي الذي خدم الإسلام والمسلمين عشرات السنين بما نقله من تراث معلقا ومحللا ومفندا آراء المستشرقين- يكتب في نهاية حياته دفاعا عن القرآن عرضناها في إيجاز شديد بعد تمحيص لآراء المستشرقين في الكتب, والمجلات العلمية والموسوعات.. إلخ. لينصف الإسلام: فماذا فعلتم أنتم يا أهل التكفير؟؟ أرجوكم أن تحفظوا عن ظهر قلب ذلك الحديث الشريف الرائع من كفر مسلما فقد كفر!! ولهذا الحديث الجميل بعد اجتماعي وسياسي رائع هو أن يجمع المسلمين تحت مظلة الإسلام: فليختلفوا وليتعارضوا, وليتجادلوا..إلخ لكن عليهم في النهاية أن يعلموا أن من قال لا إله إلا الله دخل الجنة! وأن الله لا يغفر أن يشرك به, ويغفر ما دون ذلك!..