إذا كان الطريق إلي جهنم مفروشا دائما بالنيات الطيبة كما يقولون, فإن الطريق إلي الجنة مسكون أحيانا بالأبالسة! وبعض البشر وفي بعض الأحيان كثير منهم يسلكون دون قصد طريق الجنة بأساليب توقظالشيطان من مرقده ليبذر بين الناس وسواس الفتنة والحروب الدينية, وهم يتصورون أنهم بهذا السلوك يحجزون مقعد مسبقا في النعيم! ومن بين هؤلاء بشر يتركون دينهم وينشغلون بدين الآخر, وهمهم الأول هو البحث عن المثالب والعيوب والنواقص والنواقض فيه, كي يقفوا في البرية ويصرخون: نحن الأخيار, نحن الأفضل, نحن الأقرب إلي الله, أما الآخرون فهم الأشرار السيئون الأبعد عن الله.. ويخيل لي أحيانا أن هؤلاء يظنون أن الجنة ضيقة المساحة, ولن تسع إلا لهم فقط دون خلق الله, وعليهم أن يقدموا أوراق اعتمادهم علي وجه السرعة قبل أن تحجز كل المساحات فلا يجدون خرم إبرة! وفي الغالب لا تقتصر أوراق الاعتماد علي الإيمان والورع التقوي والعمل الطيب وأعمار الأرض, وإنما تمتد إلي الطعن في الأديان الأخري وأحيانا تسفيهها! والدين الإسلامي من الأديان التي تعرضت إلي حملات شرسة مستمرة فيها كثير من الوقاحة والجهل سواء في الشرق بيزنطة أو في الغرب, باسم البحث العلمي ومناهج التحليل, حملات بدأت منذ أكثر من ألف سنة, بل تحديدا في القرن السابع الميلادي بانتقادات يوحنا الدمشقي وأثيميوس زيجابينوس في مؤلفه العقيدة الشاملة, ولم تتوقف هذه الحملات واستهدفت بالدرجة الأولي كتاب الله القرآن باعتبار ه حجر الأساس في الإسلام وعموده الصلد, شارك فيها رجال دين وأباطرة ومفكرون وفلاسفة وكتاب وسياسيون, وزادت حدتها في الألفية الثالثة, خاصة بعد هجمات سبتمبر علي نيويورك وواشنطن, والعمليات التفجيرية في لندن وبالي ومدريد والرياض وطابا والرباط وغيرها! والمدهش أن عددا كبيرا من المنتقدين المحدثين دأبوا منذ فترة علي إمطار بريدي الإلكتروني برسائل يتوهمون انهم أتوا فيها بما لم يأت به الكارهون الاوائل, منهم واحد اسمه عزت أندراوس وقد يكون اسما مستعارا, لا يكف عن تذكيري ب الأخطاء النحوية في القرآن, وبدا من كتابته وتعامله مع السور القرآنية والأيات وتبوبيها وتصيده أنه يتحدث عن أشياء يجهلها جهلا تاما, فصار مثل الأعمي الذي يتصور نفسه دليلا للممبصرين في عملية تسلق جبل حاد التضاريس.. وهذه الأخطاء التي وقع فيها أغلب المنتقدين, لها أسباب إضافية, غير العداوة والكراهية.. أولا: إن اللغة العربية عصية عليهم لا يفهمون مدلولاتها الفنية والأدبية علي نحو صحيح, فيستخرجون من العبارات التي يقرأونها معاني لا علاقة لها بالنصوص التي يتعاملون معها أو يستشهدون بها, وقد أورد عزت هذا ما يربو علي25 خطأ حسب أوهامه, كلها مرود عليها بالأدلة اللغوية وأبيات الشعر الجاهلي وقواعد النحو والصرف العاصية عليه في كتاب صادر من وزارة الأوقاف بعنوان حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين, وأنصح الاستاذ عزت بالإطلاع عليه علي شبكة الإنترنت لعله يريح عقله ويرتاح. ثانيا: أغلب المصادر التي يعتمدون عليها مجروحة أو ناقصة أو جزئية حتي لو كانت عربية, وقد نقلت من مصدر إلي مصدر عن طريق العنعنات أي عن فلان وعن فلان, دون أي محاولة لإعادة النظر في صلاحيتها الفكرية والفنية والعلمية, واعتبروا ما جاء فيها حقائق لا يأتيها الباطل وغير قابلة للمناقشة! ثالثا: كان هدف البعض منهم التبشير, والمبشر( أي مبشر أو داعية) بطبعه صاحب موقف مسبق يعمل طول الوقت علي إثبات صوابه, وينحاز ضد الدين الآخر, وتغلب عليه العاطفة قبل العقل! ومؤخرا قرأت كتاب الدكتور عبد الرحمن بدوي دفاع عن القرآن ضد منتقديه وهو تحفة فكرية بحق, لا يفند فيه فقط ما يقوله المنتقدون بشتي الوسائل,, وإنما يجتهد اجتهادا رائعا في شرح وتفسير معان تضيف للفكر الديني أبعادا قد لا يراها المسلمون التقليديون الذين ينقلون عن السلف نقل مسطرة دون تمحيص أو أعمال فكر, فتأتي أعمالهم ساذجة وأحيانا بعيدة إلي حد ما عن مفاهيم أكثر إنسانية ورحابة! وأكثر ما استوقفني في كتاب الدكتور عبد الرحمن بدوي هو تفسيره لعبارة النبي الأمي, فهو يعدد الآيات التي ورد فيها هذا الوصف سواء مفردا أو جمعا, وكذلك التفسيرات الشائعة المعتمدة علي لسان العرب, ثم يجول مع عشرات المستشرقين الذين استخدموا اللفظ بمعني جهل القراءة أو الكتابة أو الاثنين معا أو بمعني وثني, علي أساس أن النبي جاء برسالته بين أمة وثنية: هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم. ثم يقدم تفسيرا بديعا ويقول إن الرسالة المحمدية مرسلة للناس كافة دون تفرقة بسبب الجنس أو اللون أو القومية أو الحدود أو اللغة وليس لأمة العرب فقط, وبالتالي فكلمة أمي مشتقة من كلمة أمم, جمع أمة, وكما يوضح علم الصرف فأن نسب أي كلمة يجري علي المفرد وليس الجمع, فلا يقال أممي وإنما يقال أمي, بمعني عالمي وصالح وموجه لكل الأمم, فالنبي الأمي هو النبي المرسل والموجه إلي كل الأمم, وأميين التي وردت أربع مرات في القرآن الكريم تعني البشر أجمعين, من مختلف الأمم أو كل الأمم. إن كتاب الدكتور بدوي ليس مجرد كتاب في نقد الذين هاجموا القرآن وتفنيد ما قالوه, وإنما هو طريقة في التفكير نحن الأحوج إليها لنضع أيدينا علي مفاهيم أتصور أنها أكثر صحة ومنطقا مما نعول عليه من تفسيرات الأقدمين.