الإنسان كائن عجيب لا مثيل له. وقد تعددت الأوصاف التي تعبر عن تميزه عن غيره من الكائنات. فهناك من قال إن الإنسان هو حيوان ناطق, وهناك من ذهب إلي أنه بالأساس مفكر أو ذو ضمير أخلاقي. وفي سلسلة التطور للكائنات الحية يطلق علي الإنسان الحديث تعبير الإنسان المفكر اشتقاقا من التعبير اليوناني عن الفكر ولكن الفكر وكذا الوعي الأخلاقي لا يولدا في الفراغ, ولابد لهما من وسائل أو رموز لحملهما. وأود في هذا المقال الإشارة إلي أهمية الرموز في تطور الحياة البشرية. ولعل المظهر الأول لهذه الرموز هو ظهور اللغة. وقد كانت اللغة هي أخطر الأشكال لتمييز الإنسان عن غيره من الكائنات. فبدون لغة لا يمكن أن يظهر الفكر. فالفكر والمعاني لابد وأن تتطور في أشكال محددة ومتعارف عليها. فما هي اللغة؟ أليست اللغة هي رموزا صوتية للتعبير عن المعاني والأحاسيس. فهذه المعاني والأحاسيس لا تظهر وتتحول إلي قيم اجتماعية, إلا إذا أمكن التعبير عنها في شكل رموز صوتية متفق عليها, وهكذا ظهرت اللغة بإعطاء هذه الاصوات المختلفة معاني محددة ومتفقا عليها اجتماعيا. فاللغة هي, في نهاية الأمر, رموز صوتية تعبر عن مختلف الأفكار المتعارف علي معانيها. وبدون لغة لا يوجد فكر. ومع ظهور اللغة بدأت الإنسانية في التقدم وبناء الحضارات. وكانت الخطوة التالية هي ظهور الكتابة, وهي بدورها رموز من الخطوط والرسومات, ولكنها ليست مجرد خطوط أو رسومات عشوائية بل إنها تعبر عن معان محددة ومفهومة إجتماعيا. واستمرت مسيرة التقدم البشري, وفي كل خطوة كان العقل البشري يكتشف أشكالا جديدة الرموز تمكنه من السيطرة علي البيئة المحيطة به بكفاءة أكبر. وسوف أقتصر في هذا المقال بالنظر إلي ضيق المساحة علي الإشارة إلي ميدانين عرفا تقدما مذهلا, وهما الثورة العلمية والثورة الاقتصادية, وهما بعد, متصلان إلي حد بعيد. فالثورة الاقتصادية قد تحققت, إلي حد بعيد, نتيجة لما أنجز في مختلف العلوم, وخاصة في مجالات التكنولوجيا. وقد كان أحد أسباب تقدم العلوم هو إنها وجدت لغة من الرموز لعل أهمها الرياضة. فما هي الرياضة؟ إنها رموز متفق عليها تسمح بإيجاد قوانين للطبيعة, والتعبير عنها من خلال هذه الرموز( في شكل معادلات رياضية). وليس هنا مجال التعرض لأهم الأفكار الرياضية, ويكفي أن نشير فقط إلي أحد هذه العناصر, وهي الأعداد الرياضية. فما هي الأعداد؟ أليست مجموعة من الرموز التي ترتبط ببعضها لعلاقات منطقية. فالرياضة هي لغة العلوم في التعبير عن القوانين الطبيعية, ونظرية الأعداد هي أحد فروع علوم الرياضة. وقصة تطور الأعداد في الرياضة هي قصة مثيرة. وقد بدأت بما يعرف بالأعداد الطبيعية كما في أصابع اليدين, ومن هنا لم يكن غريبا أن تأخذ الأعداد الأساس العشري لعشرة أرقام, تتكرر بعد ذلك بعد تغيير موقع كل منها. فالأعداد يرمز لها بعشرة أرقام. ومع اكتشاف هذه الأعداد الطبيعية أصبح من السهل إجراء عمليات الجمع, ثم تبين أن هناك صعوبة في القيام بالعملية العكسية للجمع( الطرح) إذا طرحنا عددا أكبر من عدد أصغر. ومن هنا ظهرت الحاجة إلي ظهور مفهوم جديد هو الأعداد الصحيحة, وهي تختلف عن الأعداد الطبيعية في أنها يمكن تكون موجبة أو سلبية. وبذلك أصبح من الممكن طرح رقم أكبر من رقم أصغر, وتكون النتيجة رقما سلبيا. ومع وجود الأعداد الصحيحة أمكن أيضا القيام بعمليات الضرب, ولكن ظهرت هنا صعوبة أيضا في عمليات القسمة( وهي العملية العكسية للضرب), ولذلك ظهرت فكرة الأعداد الكسرية بحيث أصبح من الممكن أن نتحدث عن عدد صحيح مع الكسر. كما تبين بعد ذلك أنه حتي مع وجود الأعداد الكسرية, فهناك عمليات رياضية لا تكفي فيها هذه الأعداد. وكان الفليسوف الإغريقي فيثاغورس قد وضع نظريته في الهندسة,حيث أشار إلي أنه في المثلث القائم الزاوية, فإن مربع القطر المواجه للزاوية القائمة, يعادل مجموع مربعي الضلعين الملاصقان للزاوية القائمة. فإذا كان هناك مثلث قائم الزاوية وطول كل ضلع ملاصق للزاوية القائمة هو واحد سنتميتر, فإن طول القطر المواجه للزاوية القائمة يكون الجذر التربيعي لمجموع مربع الضلعين الآخرين, أي الجذر التربيعي للعدد إثنين. ولكن لا يوجد عدد كسري لهذا الجذر التربيعي, بل هو عدد لا ينتهي من الأرقام العشرية41423.1.... وهكذا أضيف إلي عائلة الأعداد, نوع جديد هو الأعداد غير الكسرية. وأخيرا أضيف نوع آخر وهو المعروف بالأعداد المركبة حيث يكون مربع أحد الأعداد سالبا علي عكس المعروف في قواعد الحساب. ومع هذه الأنواع من الأعداد أصبح من الممكن حل جميع المعادلات الرياضية. وبذلك تقدمت علوم الفيزياء والفلك والكيمياء وغيرها نتيجة لاكتشاف الإنسان هذه الرموز الرياضية المتنوعة في قضية الأعداد. ولكن الرموز لم تلعب فقط دورا في العلوم الطبيعية, بل أن الاقتصاد قد تقدم, إلي حد بعيد, نتيجة لاكتشاف أنواع من الرموز الإقتصادية التي سهلت عمليات التبادل وتوسيع الأسواق, مما أدي إلي زيادة الكفاءة في إستخدام الموارد وعناصر الثروة. فما هو الاقتصاد الرمزي؟ تجري المقارنة عند الحديث في الاقتصاد بالمقابلة بين الاقتصاد العيني والاقتصاد المالي؟ فما هو الاقتصاد العيني, وما هو الاقتصاد المالي؟ وأيهما اقتصاد رمزي؟ أما الاقتصاد العيني( أو الحقيقي) فيقصد به الموارد التي تشبع الحاجات بشكل مباشر أو غير مباشر. فالسلع استهلاكية او إنتاجية هي جزء من الاقتصاد العيني لأنها تشبع الحاجات مباشرة أو بشكل غير مباشر. فالأرض والآلات والمصانع والمرافق والعمل كما السلع الاستهلاكية بمختلف أشكالها وكذا الخدمات, هذه كلها أجزاء من الإقتصاد العيني. أما الاقتصاد المالي فإنه عبارة عن حقوق أو مطالبات علي هذه الموارد العينية. فالأرض الزراعية هي جزء من الاقتصاد العيني, أما حق الملكية عليها فهو حق قانوني أو سلطة يخولها القانون لصاحبها بأن ينتفع بالأرض باستغلالها مباشرة لصالحه أو بتأجيرها للغير مقابل إيجار أو بالتصرف فيها كلية بالبيع أو الهبة. فحق الملكية هو رمز وليس هو الأرض ذاتها, ولكنه يسمح بالتصرف فيها. وحق الملكية هو أقدم الحقوق القانونية وربما أخطرها, وهو أيضا أكثر الحقوق اندماجا بالشيء نفسه. ولكي يتضح معني الملكية باعتبارها حقا قانونيا, يميز رجال القانون عادة بين المالك والحائز. ومع ظهور مفهوم حق الملكية بدأت ظاهرة المبادلة تأخذ شكلا قانونيا معترفا به من المجتمع بالبيع أو الإيجار أو غير ذلك. ومع التطور أصبحت الملكية العقارية تثبت في سجلات الشهر العقاري ولا تكتفي بالحيازة الفعلية. وأصبح من السهل التصرف في الملكية بمجرد تعديل في شكل المالك في سجلات الشهرالعقاري. وإذا كان حق الملكية هو أقدم الأصول المالية, فإن أهم وأشهر هذه الأصول المالية هي النقود. فالنقود ليست سلعة من الموارد الإقتصادية العينية التي تشبع الحاجات بشكل مباشر( مثل السلع الاستهلاكية), ولا هي تساعد بذاتها علي إنتاج السلع( مثل السلع الاستثمارية). وإذا لم تكن النقود سلعة من الموارد العينية, فما هي بالضبط؟ النقود حق اقتصادي( قانوني) يعطي لحاملها الحق في مبادلتها بأية سلعة معروضة للبيع. ومن هنا نقول إن النقود هي قوة شرائية عامة. فما معني ذلك؟ المقصود أن حامل النقود له الحق في مبادلة ما يحمله من نقود مع أي سلعة معروضة للبيع. ولكن لماذا يقبل البائع, في هذه الحالة, التنازل عن بضاعته مقابل النقود؟ السبب في ذلك أنه يعرف أن البائعين الآخرين سوف يقبلون بدورهم التنازل عن بضاعتهم مقابل هذه النقود. فالنقود تتمتع بالقبول العام من جانب المتعاملين. وفي أكثر المجتمعات تتدخل السلطة بمنح النقود المتداولة هذا الحق القانوني, فتضفي بذلك سلطة قانونية علي القبول العام للنقود وبذلك يمكن القول إن النقود وهي حق علي الاقتصاد في مجموعه, حيث يستطيع حاملها أن يبادلها بأية سلعة معروضة في الأسواق. وينبغي أن نؤكد هنا أن القانون يدعم القبول العام للنقود ولكنه لا يفرضه قهرا. فالقبول العام للنقود هو ظاهرة مجتمعية يدعمها القانون, ولكنه لا ينشئها. فإذا فقد الناس ثقتهم في النقود القانونية, فإنهم يلجأون عادة إلي استخدام عملات أجنبية. وقد عرفت معظم المجتمعات, في مرحلة أو أخري ظهور النقود كنتيجة للتبادل, بدلا من المقايضة, وساعدت بدورها علي نمو المبادلات وتقسيم العمل وقيام التخصص. لمزيد من مقالات د.حازم الببلاوي